Friday, September 26, 2008

من هنا بدأ السيد حجاب، ومن هنا نبدأ

الأشياء في مصر، وربما في غيرها، تبدأ هكذا: صغيرة بسيطة حمقاء

السادة الفاهمون في لحظة من لحظات الملل يلتفتون إليها، ويسألونها لماذا هي صغيرة بسيطة حمقاء، ويبدأون هيلا بيلا في تكبيرها، حتى تصبح جديرة بأن يتكلموا عنها.

خذ عندك مثلا: هناك حتة قماش تضعها المرأة على رأسها، ونحن نعرفها من زمان، نراها في الريف وفي الصعيد وفي مدن بحري، (مع استثناء فترة شخلعة قصيرة – حوالي تلاتين سنة). يعني هذه الحتة من القماش شيء عادي جدا، وبسيط جدا، طبيعي جدا. كانت صغيرة بسيطة حمقاء، كما تبدأ الأشياء في مصر.

تقريبا حصل غلط. السادة الفاهمون في الفقرة قبل السابقة، ليسوا سادة فاهمين، وانما هما سيدان فاهمان، علمنا الاتجاه المعاكس وفيصل القاسم انه ليس هناك سوى سيدان فاهمان في كل موضوع. وبشرط أن يكون كل واحد منهما فاهم عكس ما يفهمه زميله بالزبط عن نفس الموضوع. نظر السيدان الفاهمان إلى حتة القماش الصغيرة المسكينة، وقالوا لها: تعالى يا زغنونة. لماذا أنت صغيرة بسيطة حمقاء؟ تعالى تأكلين من أكلنا وتشربين من شربنا وتلبسين من لبسنا، وتصبحين واحدة منا.

واحد من السيدين كان يحب أمريكا، وهو يحب التدخل الأمريكي في العالم العربي، وهو يحب الحداثة، وهو يحب التقدم، وهو يحب التطور، وهو ضد الإرهاب وهو ضد الأصولية الوهابية الظلامية التكفيرية السعودية الخليجية، والآخر كان يحب الإسلام، ويتمنى العودة إلى ألف ونصف ألف سنة من الزمان، وهو يحب الصحابة وهو يحب السواك ويكره أمريكا والغرب وإسرائيل والدانمارك وأستراليا، ويكره منظمات حقوق الإنسان والأمم المتحدة واليونسكو، وتقريبا هم هكذا منذ زمان أوي، لأن الأشياء في بلادنا، وربما في غيرها، لا تزهق من نفسها بسرعة. ولكنهم لما شافوا حتة القماش، اكتشفوا أنهم زهقوا من كلامهم، لانهم بيقولوه من زمان اوي، وقالوا هناخد حتة القماش دي، ونربيها، يمكن تنفعنا بعدين.

المهم، كبرت حتة القماش. وكبر سيد أمريكا. وكبر سيد إسلام. وتلقت حتة القماش المهمة التي نذرت لها بفرح خاص. تلقت اسمها الجديد "الحجاب" بامتنان لأبويها اللذين ربياها. كانت تقول: لم أعد وحيدة الآن، هناك من الصوحاب ألف، نقاب وإسدال وخمار. وتذكرت أيام كانت شيئا بسيطا صغيرا أحمق، وقالت لأنني كنت صغيرة فلقد كنت وحيدة. ونظرت لأبويها اللذين ربياها، ووجدتهما يتعاركان، واسمها يتردد في العركة، وخمنت أنهما يتعاركان بسببها، وامتلأ قلبها بالأسى، ولما عاد أبواها من الخارج متعانقين، قالت بتنهيدة: إن كان يرضيكما أن أخرج من حياتكما فأنا لا أمانع. مسح الأب الأول، السيد أمريكا، على رأسها وقال: يا عبيطة. مازلت إذن صغيرة بسيطة حمقاء. وباسها الأب الثاني، السيد إسلام، على أورتها وقال: لماذا ربيناكي إذن إن لم يكن علشان نتخانق بسببك؟ كميلة إنتي، وابتسم. واصطحب كل من الأبوين الأب الآخر إلى أودة النوم، وبعد قليل ناديا عليها. ذهبت إليهما مبتسمة ابتسامة خجلى، يشع حياء الأنثى من عينيها، تقدم رجلا وتؤخر أخرى، وفي أود النوم دائما تحدث أشياء لا يشترط أن تكون مهذبة تماما.

كل يوم كان يضيف لها معرفة جديدة، وذاكرة جديدة، وجرحا جديدا. صارت مثقلة بالمعرفة، وبالرموز وبالحقائق. وكانت تجلس في البيت ندمانة تندب أيام جهلها عندما كانت مجرد قطعة قماش لا بها ولا عليها، كانت تجد أبواها يتخانقان حتى يكادا يقطعان بعض فيمتلئ قلبها بالحب والنور والفرح، الفرح لأن القدر ساقها إلى هذين الأبوين الطيبين الذين جعلا منها شيئا مهما إلى كل هذا الحد.

مرض السيد أمريكا، وحزن عليه السيد إسلام فمرض هو الآخر. كان أصحابهما يأتون لزيارتهما في مرضهما فكانا يشيران إليها ويقولان لأصحابهما: هي صاحبة البيت من بعدنا. وصار أصحاب السيد إسلام يقبلون يدها، وصار أصحاب السيد أمريكا يقبلون يدها.

السيد إسلام مات، ولم يستطع السيد أمريكا العيش من بعده، فمات. وهكذا صار أصحابهما وأبناء أصحابهما يتوجهون في البيت إلى السيد حجاب، وهو غير سيد حجاب بطبيعة الحال، وصاروا يعادون بعض من أجله ويصاحبون بعض من أجله، حتى بعد رحيل السيد أمريكا والسيد إسلام. ونسي السيد حجاب عندما كان مجرد حتة قماش صغيرة بسيطة حمقاء، وطويت للأبد هذه الصفحة المظلمة في تاريخه وتاريخ البشر.

و م اليوم دا يا حبايبي والحجاب بقى حاجة كبيييييرة ومهمة اوي ف حياتنا

Friday, September 19, 2008

وجع في روحي.. وجع في بطنك

لم تجد صحيفة "الأسبوع"، للتعبير عن رد فعل، أي رد فعل، إزاء كارثة الدويقة، سوى مانشيت كبير بصفحتها الأولى يعلن: "آه يا وجعي".

ياء

لم تقل لنا "الأسبوع" لمن كان هذا الوجع، خاصة أنه كان مرتبطا بضمير الملكية للمفرد المتكلم، أي أنه وجع شخص واحد، لم تكن "آه يا وجعنا" مثلا. هل كان رئيس التحرير هو الذي يتوجع، رئيس مجلس الإدارة، الشخص الذي يسمى بـ"المصري"؟ لم نعرف، ولم يكن هناك بايلاين يشرح من الذي تكلم من شوية وقال آه يا وجعي.

***

طبعا كلامي إلى الآن كان عن الياء التي في آخر وجعي، وليس عن وجعي نفسه. معلش. دلوقتي نتكلم. تعبتكو معايا انا عارف.

مواجهة مصرية شامية

لا أعرف بالضبط متى عادت كلمة "وجع" لتظهر للوجود بالفصحى، أعني كلمة "وجع" ذات المفهوم الرومانسي: وجع الروح، وجعي الخاص، آه يا وجعي. أي أن يكون لها معنى يتجاوز "رجلي بتوجعني" أو "جاك وجع ف بطنك"، وهو المعنى الذي تربيت عليه وظننت أنه الوحيد المتاح. الوجع، بهذا المعنى الروحاني السامي، ويا سلام لو كانت بالجيم الشامية المعطشة، هي كلمة جديدة، وحلت منذ سنوات فحسب محل كلمة "ألم" التي كانت هي الشائعة لفترة طويلة. لم يكن منطقيا إذن أن تقول الأميرة السورية علياء المنذر – في مسلسل "أسمهان" – للموسيقار داود حسني إنه: "ما فيه حدا متل سيد درويش قدر يعبر عن وجع المصريين". رد داود حسني كان مفحما بالمناسبة، وسيطيب للكثيرين اعتباره نموذجيا بالنسبة لمصريته، مثلما كانت جملتها نموذجية بالنسبة لشاميتها. قال داود وقد انتبه: "على سيرة الوجع، أنا عصافير بطني بتوجعني جدا."

تقسيم العمل

وعلى قدر ما أصبح الوجع، في اللغة الأدبية، وجعا روحانيا، على قدر ما تم حرمانه من دلالته الجسدية، التي تربينا عليها أطفالا. يصعب تخيل راوية أو راو يحكي عن ألم في ساقه ويقول: "رحلة الوجع استمرت طول الليل". سيستخدم حينها كلمة "ألم"، ببساطة، فهو يدخر الوجع للوجع الحقيقي، وجع الروح الخالد، وليس وجع الجسد الفاني. كلمة "ألم" هي كلمة تقنية ومهنية ولا تحتمل سمو الروح. يعني، في اللغة الأدبية، حدث تغير مهم، الألم صار للجسد، والوجع للروح. هذا هو تقسيم العمل المثالي. وهكذا انحاز المثقفون – المثقفون بالتحديد، لا رجل الشارع – للمرة الألف، إلى الروح على حساب الجسد.

***

طيب، على سيرة الوجع، نسيت أن أخبركم أن هذا كان يتزامن مع وجعي أنا الشخصي والذاتي جدا، وجع ضرسي.

إنه يحدد انحيازاته كأي مثقف

قارئي العزيز، أتمنى أن يكون قد وصلك انطباع ما الآن، بأنني أنحاز لكلمة "ألم"، وأني لا أحب "الوجع". أنا عارف، هذا انطباع يضايق بالتأكيد، لأنك قد تكون، وبلا وعي خالص، وبدون التفكير في كل ما قلتُه، تحب كلمة وجع، وترى كلمة "ألم" مبتذلة، وأنت بالتأكيد تريد قراءة تدوينة تجد نفسك فيها، ويؤسفني جدا بالطبع أن هذا لا يحدث هنا. قلبي معاك. طيب، خطوة أبعد: أنا لا أحترم وجع الروح، على قدر ما أحترم جدا ألم الجسد. وجع الروح تجربة مشتركة بين جميع الناس، كل الناس نفسيتها تعبانة، أنا تعبان وإنت تعبان والحاج والحاجة تعبانين. ولكن بعضهم فقط جسمه تعبان. بعضهم فقط يشكو من مرض، من التهاب، من هارت أتاك، من ألم ف سنانه، وهذا الأخير هو أنا، أنا الفقير المسكين المستحق لرحمتكم.

أوبسسسسس، إنه يتحدث عن ذاته

لثلاثة أيام كان الألم يهجم بلا رحمة، ومع الألم، الانتباه له، عدم القدرة على النوم، أو العمل أو التفكير في أي شيء آخر غير بسلامته. ضرس كامل يتصدع، صداع يصعد إلى النافوخ، أمسك ضرسي فيسكن الألم لحظة ثم يعود وبضراوة أشد، والمسكنات لا تعمل. باختصار، لم يكن ممكنا عدم التفكير في زيارة الدكتور الكئيب، وتخيل شناييره التي يضعها في الفك، ثم وضع السيناريو الكئيب لأول الألام الجادة، وأول الزيارات للدكتور، وأول الأدوية، التي سيتبعها بعد ذلك مراحل متدرجة من انهيار الجسد الهائل والقوي، وصولا إلى ومن نعمره ننكسه في الخلق خالص. الأسد تسقط أسنانه تباعا يا أحبائي.

وتنظيرة سريعة

من يحب يستطيع التخفيف عمن يحبه. يمكن للمحبوب، بحضوره، بعطفه الزيادة، بتفهمه الأكثر، بسهوكته الأكثر، أن يخفف عن حبيبه الوجع، بالتحديد، وفقط، لو كان هذا الوجع هو وجع روحه، أي لو كان حبيبه متضايق من حاجة، قافش، مخنوق، تعبان نفسيا، وغير هذا من التعريفات المعتمدة لـ"وجع الروح". ولكن سلطة المحبوب تتوقف أمام ألم الجسد. وهذه نقطة مهمة، لأنها تكون لحظة من اللحظات القليلة التي تثبت أن المحبوب هنا هو مجرد بني آدم وأنه ليس ربنا ولا حاجة. هذا طبعا يكون جارحا للمحبوب، أن يرى سلطاته تتقلص أمام عينيه، ويرى نفسه وقد فقد تأثيره على الشخص الذي على طول يقول له يا روحي ويا حياتي. استمرار المحب في تألمه هو شيء يجرح كرامة محبوبه. إنها صدمة معرفية، وتجرح، بشكل لا فكاك منه، الحبيب والمحبوب في أعز ما يملكان، في السلطة الرهيبة التي يملكها كل منهما على الآخر، وتجعلهما يفكران في أن الشيء الذي يجمعهما ليس قدريا ولا حاجة، وأنه مجرد اشتغالة كبيرة. إنه نزول الإله عن عرشه وبدء زمن الحداثة.

***

وجع السنان بيعدي، ووجع البنج بيعدي، ووجع حقنة البنج بيعدي، ومابيفضلشي ف الأيام المفترجة دي غير الكلمة الطيبة..... يا صاحبي.

Friday, September 12, 2008

موتابي الشرير يتحدث

أعرفكم بنفسي.. إسمي موتابي.. موتابي الشرير إذا شئتم، وأعتقد أنكم تشاؤون.

في الحقيقة أنا لم أولد وغدا شريرا كما أنا الآن. وإنما كنت طول عمري مؤذيا فقط، مؤذيا بمرح، وبسعادة: كنت أفتن للمستر على العيال الذين يزوغون وأخنصر في فلوس الدروس الخصوصية حتى ألعب بلياردو وفي صالة البلياردو كنت أسرق الكور وأحطها في جيبي. وكنت أغري البنات صديقات أصدقائي بمعسول الكلام حتى أخطفهن من أصدقائي. وأحيانا كنت أسوق سيارتي بسرعة شديدة فأقتل في طريقي خمسة أو ستة من خيرة شباب الوطن. وهذا حتى منذ خمستاشر سنة تقريبا، عندما قررت أن أستغل ميولي للأذية في شيء جاد، مؤذي للوطن وللتاريخ ولأهل بلدي، فقررت أن أسافر إلى إسرائيل، لأنني أؤمن أن الشخص الشرير يجب أن يكون شريرا في جميع تفاصيل حياته، وبحسب ما تتطلبه مراحله العمرية المختلفة.

طبعا أنا لا يجب أن أتحدث كثيرا حول تفاصيل زيارتي لإسرائيل. كل ما أريد قوله أنني فور وصولي إلى تل أبيب سألت واحد في الشارع عن مكان فندق "أعداء العرب والمسلمين" الذي سأقيم فيه فقال لي: أهلا سيد أبو علي. أنا شالوم كوهين ضابط في الموساد الإسرائيلي. نحن نعرف جيدا ميولك الكامنة لإيذاء الآخرين. ونعلمك أننا نحب هذه الشخصيات جدا، لأننا مجموعة من الأشرار، الأشرار، الأشرار. ونحن نحب أن نسميك من الآن فصاعدا موتابي. موتابي الشرير. ونحب أن نضع لك وشما على ذراعك، يدل على أنك أصبحت خلاص تبعنا، وأنك أصبحت موتابي الشرير، وأن حياتك قد تكرست من الآن فصاعدا من أجل هدفك، وهدفنا، الأساسي، وهو اختراق جبهة المثقفين المصريين الشرفاء الذين يحبون وطنهم الأحمق اللعين ها ها ها.

المهم من ساعتها أصبحت شريرا جدا، بسبب الوشم على ذراعي، وهو الوشم الذي يحوي كلمات قليلة. "أنا موتابي عميل وشرير. يجب علي أن أخترق المثقفين المصريين." وكلما تحسست هذا الوشم أتذكر هذا الهدف فأصبح شريرا أكتر وأزمجر من كتر الشر. وهذا لغاية اليوم المشئوم إياه.

كنت أسير في شوارع القاهرة وأنا أسمم أفكار شباب مصر وفي نفس الوقت أفكر في أساليب جديدة لتخريب الوطن، عندما رن تليفوني المحمول ووجدت صوتا غاضبا يقول لي: أنت مفصول يا أفندي من عضوية اتحاد الكتاب. مفصول. مفصول. مفصول. سألته من أنت. قال له. اكتب هذا الاسم لأنك ستسمعه كثيرا. اسمي سوبر موكاتي. وأنا أعرفك جيدا وأعرف أن اسمك موتابي الشرير. صرخت فيه: عليك اللعنة يا سوبر موكاتي. لقد كسبت أنت المعركة ولكن الحرب لم تنته بعددددددددددد.

كلمة أخيرة: أستطيع القول أنني انتصرت، بفضل الوشم إياه، على جميع أعدائي، أنني قوي وشرير وعدواني ومكار بشكل لا يقارن. ولكن الوحيد الذي تصدى لمحاولاتي الشريرة والعميلة هو سوبر موكاتي، سوبر موكاتي الذي يملك سلاحا لا أملك مثله، وهذا السلاح اسمه (الشرف المهول)، وهو عبارة عن خاتم يضعه في بنصره الأيسر، ويجعله يصبح سوبر موكاتي بمجرد أن يسمع عن مثقف مصري جديد استطعت أن أخترقه وأجعله ينضم لجبهة الموتابين. كل ما أتمناه أن يأتي اليوم الذي أستطيع فيه سرقة هذا الخاتم وتحطيمه تماما. وعندها فقط، يتحول سوبر موكاتي إلى موكاتي عادي، وتحسم الحرب لصالحي.. وانس آند فوريفر.


Friday, September 05, 2008

كتابة الجسد.. جسد الكتابة


"هذا ليس مانيفستو، فأنا لستُ من محبّذي المانيفستات والعرائض والبيانات." هكذا تبدأ جمانة حداد مقالها المنشور في كيكا حول المجلة المزمع إصدار عددها الأول قريبا من بيروت، مجلة (جسد)، والتي أسستها ورأست تحريرها. وبرغم هذه البداية الصاخبة، فهي تنتج مانيفستو، أو على الأقل، مقالا يحوي جميع مواصفات المانفيستوهات: وهم السبق، اليقين التام، طغيان السياسي على الفني، ورؤية الكفر كله ملة واحدة، هو ملة المشككين في نجاح المجلة أو المعترضين عليها.

"جسد" هي مجلة تعني بآداب الجسد وفنونه، ترسم لنا جمانة من البداية المحظورات التي تنتهكها مجلتها:

"مجلة ورقية تُعنى بـ"آداب الجسد وفنونه". وهي، كي "تزيد الطين بلّةً"، مجلة باللغة العربية. وهي، فوق هذا كلّه، مجلة ترأس تحريرها امرأة. أي أنها "كوكتيل مولوتوف" برسم الانفجار".

تعي حداد البعد السياسي للمجلة، تعي أنها جاءت لتعادي أناسا ولتهدم ثقافة ولتحل ثقافة محلها. بل وما يتجاوز الوعي بقليل: على طول بيانها لا ترى غير هذا البعد السياسي، لا ترى الجسد الذي تدافع عنه، وإنما ترى حربها ضد أعداء الجسد الذي تدافع عنه. ترى عداءهم له وترى عداءها لهم. بهذا المعنى، بدا البيان – على الرغم من عدم تفضيل الكاتبة لكلمة بيان – غاضبا بشدة، يعرف أعداءه بشدة، ولكنه لا يعرف أصدقاءه، ولا يعرف نفسه. الجنس في البيان التحم بالتابو، وباختراقه، بلا انفصال. ليس من جنس مرتاح هنا، وإنما جنس محارب. ليس من جنس رائق ومسترخ، وإنما جنس يستهلك طاقته في محاججة خصومه، في تخليص نفسه من قيوده وتابوهاته (تتحدث جمانة في هذا الفيديو عن لوجو المجلة وكونه اللوجو المثالي: كلمة جنس تتخلص من قيودها). لا جسد هنا وإنما الدفاع عنه فحسب، وإذا لم يكن الجسد موجودا، فدفاعا عن أي شيء نحارب إذن؟ هذا لا يحدث بالطبع إلا في المانيفستوهات والبيانات التأسيسية.

2

على العموم، ليست تلك إلا مشكلة هامشية، أما الخطر الأساسي من وجهة نظري في المقال، فهو مماهاة مفهوم الجسد بمفهوم الجنس. الجسد الذي تتصوره جمانة حداد هو جسد لا ينفصل عن الجنس، وبرغم أهمية ما يسمى بالجنس، إلا إنه يتقاطع فحسب مع الجسد، ولكنه لا يتماهى معه. أجسادنا كثيرة، أجسادنا تسمن وتنحف، ويتم تسمينها وتنحيفها، أجسادنا تتشوه ويتم تشويهها، نقوم بالتعذيب ويتم تعذيبنا في أقسام الشرطة انطلاقا منها، يتم التدخل الطبي فيها بمشارط الجراحين، أجسادنا تنمو، تترهل، تضعف، يتم التحكم فيها عن طريق صالات الجيم ومراكز التجميل، كل هذا تم تغييبه لصالح جسد واحد، هو الجسد الجنساني. ربما لأن الجسد الجنساني هو الذي تم تصوره أكثر تسيسا، أكثر إثارة للجدل، وأكثر تحطيما للتابو.

ولكن، على الناحية المقابلة، فالجسد الذي يتعرض للتعذيب في أقسام الشرطة، والجسد الخاضع لعملية تجميل، والجسد الخاضع للريجيم، بإمكانه أن يكون جسدا سياسيا هو الآخر، مثيرا للجدل ونستطيع من خلاله تأمل ما هو أبعد منه.

3

وحتى لو قبلنا بهذا الاختزال للجسد في الجسد الجنساني، فإن البيان يبدو محتشما وجماليا لحد كبير. (جسد) ليست مجلة بورنوغرافية، هذا ما تقوله جمانة وهي تعدد التعريفات السلبية لمجلة (جسد)، وأي وهي تعدد كل ما ليست (جسد) عليه. تستدرك أنها لا تتنصل من مفهوم البورنوغرافية. هل يعني هذا أنها ترى البورنوجرافيا أمرا جميلا، أو طبيعيا؟ لا. بالعكس تماما. تضيف:

"نحن نعيش في لبنان ما يكفي من البورنوغرافيا السياسية والاجتماعية والاعلامية والفنية والثقافية والعقلية والفكرية والأخلاقية، كي لا نخشى الأقل ضرراً بين أنواع من البورنوغرافيا: أي النوع الحرفي والمباشر."

أي هي تنسب للبورنوغرافيا كل الكوارث التي يمر بها لبنان الآن، تستعمل "بورنوغرافيا" كوصمة لكي تسب وضع البلد. تستجيب لسائر المجازات التي تربط أفعال الجنس بالشر، تقول وهي تعدد مظاهر النفاق الاجتماعي في الوطن العربي:

"ننهى عن المنكر بيد، ونمارس الدعارة الفكرية (وهي الأدهى (الجنسية) باليد الثانية".

أو:

"نسمّي نشر قصائد أو قصص أو نصوص أو ترجمات تنتمي الى الكتابات الأدبية الايروتيكية في مجلة ثقافية عربية: بورنوغرافيا."

هكذا يمكننا أن نفهم عدم تنصل الكاتبة من لفظ "البورنوغرافيا". لم يكن هذا نابعا من فرط التحرر، وإنما من فرط الاحتشام، على ما يبدو.

4

تعدد جمانة التعريفات السلبية ل"جسد". ليست "جسد" مجلة بورنوغرافية، وليست مجلة نضالية ذات قضية، وليست مجلة وعظ وإرشاد، وليست نزوة ظريفة، وليست مجلة منوعات فنية. هكذا تقلب الطاولة على التعريفات المتوقعة للمجلة، ولكنها عندما تبحث عن تعريف إيجابي، يبدو هذا أصعب ما في الموضوع. فتلجأ للتهويم:

"(جسد) مشروع ثقافي وفكري وأدبي وفني جدّي، تطلّب الكثير من التفكير والتمحيص قبل أن يتبلور ويتكوّن. وهو مشروع ينتمي الى الجسد، جسد الحياة، جسد العقل وجسد القلب وجسد اللغة."

جسد الحياة وجسد العقل وجسد القلب وجسد اللغة، أي جسد يتعلق بالحياة والعقل واللغة؟ الكاتبة هنا تلجأ للتهويمات لأجل توسيع حدود الموضوع الذي تتحدث عنه، وهذا التوسيع المبالغ فيه، يهدم جذريا علاقة العنوان بالموضوع. ما الذي تعنيه كلمات مثل جسد الحياة، وجسد اللغة؟ لا أعتقد انها تعني الكثير، وربما أزيد فأقول أنها أتت فقط لسبغ القيمة على موضوع المجلة. الجسد في حد ذاته موضوع هامشي، ولابد من ربطه بالحياة والعقل واللغة، حتى تصير له قيمته الفكرية. حتى يصبح أمرا جادا.

5

ليس ما هنا هو مجرد تهويم، وإنما أمر مضمر بالاستجابة له وتصديقه. الأمر لا يتعلق بقصيدة نكتب فيها هواجسنا وإنما بمقال يتخذ، رغما عنه، من "الحقيقة" معيارا. وإذا ما تم دمج الخيال الشعري في المقال، فإن الأمر يثير الدهشة. تبرر جمانة كون مجلتها "ورقية" وليست إلكترونية قائلة:

سؤال: "لماذا لم تجعلي "جسد" مجلة الكترونية، لتجتنبي بذلك أي رقابة محتملة عليها؟"
جواب: "لأن الورق من أرقى الاجساد التي يؤتى لنا أن نلامسها، ومن أشهاها. ولأن "الدخول من الباب الضيّق"– مثلما قال أحد العظماء منذ نحو الفي عام– أجمل من رحابة الطريق الانترنتية؛ أليس كذلك؟!

ليس كذلك بالطبع. أو على الأقل، ليس هناك ما يفرض بأن يكون الأمر كذلك، سواء أحد العظماء وهو يتحدث عن الباب الضيق أو جمانة وهي تقرر أن الورق من أشهى وأرقى الأجساد، فكلاهما يتحدث عن مجازه الرومانتيكي الخاص، والشخصي تماما، ولا يفترض أبدا أن يشاركهما القارئ هذا المجاز. أليس كذلك؟!

لا أنكر الإثارة التي انتابتني وأنا أقرأ عن مجلة تختص ب"آداب الجسد وفنونه"، ولا أنكر أنني أتمنى منها الكثير، وأعتقد أنها ستكون من أهم الإصدارات في الفترة الحالية. ولست مؤهلا للحكم على مجلة لم أقرأها ولم يصدر منها عددها الأول بعد. كل ما أردت قوله هو بعض الملاحظات على مقالة جمانة حداد بخصوصها، وعلى خطاب يتحايل على الجنس بالزعيق العالي حوله، وبتجميله بالإيروتيكا، ويرى الجنس جسدا والجسد جنسا.