Friday, January 25, 2008

رد الاعتبار للأعماق الصلبة

بملقاط نزع نائل شعرة من شعر وجهه.. شعرة طويلة فاجأته، طويلة بشكل شاذ، إذا جاز التعبير، لم تنتزع، الأصح، تم انتزاع جزء منها، والجزء الآخر تبقى تحت الجلد، المهم، كانت الشعرة تطول وتطول وتطول، وكلما نزع نائل جزءا منها اكتشف أن ثمة جزءا آخر بالأسفل. لم تبد لها نهاية، أو على الأقل نهاية متوقعة قريبا.

الشعرة تستمر وتتواصل، وتنتشر، وتتوغل، وتستمر، وتستمر، وتستمر، كأنها شبكة مترو أنفاق تحت الأرض، وشبكة مترو الأنفاق تمزق أسفل الأرض، تقطعها أربع تربع أو ثمانية أثمان، شبكة مترو الأنفاق تلعب في أساس الأرض غير الملعوب في أساسها قبلا، وانتزاعها يعني أن الأرض من الآن فصاعدا ستعلق فوق هوة كبيرة.

المهم، كل سنتيمتر إضافي من الشعرة يتم إخراجه من مسام الجلد كان يجعل وجهه أكثر ارتياحا وحرية، كأنه فرغ من محتواه. الشعرة كانت تحتل حيزا هاما من وجهه، هذا ما اكتشفه بأسى، وهذا الحيز هو ما يعرف بما تحت الأرض، وهو بيت الطبقات المسحوقة، الظل، المجاري، وطن سلاحف النينجا، لنتخيل عالما بلا سلاحف النينجا. شبه مستحيل. شيئا فشيئا كان وجهه يصغر، كعالم فُرغ من مترو أنفاقه أو من سلاحف نينجاه للتو. لم تبد نهاية للشعرة، وليس لمثلها أن يكون.

سطح وجهه يبدو الآن مستندا على اللاشيء، يرتاح من عمقه أخيرا، وشيئا فشيئا يكتشف مدى آخر للراحة، مع كل سنتيمتر آخر يتم انتزاعه من الشعرة. السطح الآن معلق في الفراغ، أنفاق بلا مترو، مجار بلا سلاحف، السطح الآن هانئ بالخفة، بالطيران فوق أخدود غير مشعر، طائر بهشاشة، أي شيء قد يدفعه للانهيار، للوقوع والتفتت على طبقته السفلية، هو الآن مرتفع بقوة وجوده عاليا، لا بكونه مؤسسا على ما بالأسفل، لأنه ليس هناك ما بالأسفل، الوجه غير شرعي، تافه ولكنه بجح، عيل صفيق معلق في الهواء بلا جذور.

مع انتزاع الشعرة يبدأ الوجه نفسه، السطح محل الحديث نفسه، بالتفتت، يفلت خيط من الوجه أيضا، ينظر نائل إلى نفسه في المرآة. خيط من خده ينحل، خيط هو جزء من الشعرة اللانهائية، يمد يده أكثر لانتزاع بقية الشعرة، خيط آخر من وجهه ينحل، شيئا فشيئا يسير الوجه كله نحو التفكك، تبدأ منطقة الأذن اليسرى وما حول العين اليسرى في الانحلال، تليها منطقة الفك وأسفل الأنف، تنفك قماشة الخدين كلها، شعرة طويلة تتكوم على حوض الماء، طويلة طويلة، تتكوم في بكرة ضخمة مبتلة بالماء.

الآن، خيوط الوجه كلها انحلت، الوجه يصبح بلا وجه، تتكشف تحته أنفاق كثيرة فارغة مرت بها الشعرة المنتزعة والآن لم تعد تمر بها، أنفاق بلا مترو، مجار بلا سلاحف، كما أسلف القول أكثر من مرة.

نائل ينظر لنفسه طويلا في المرأة فيجد وجها عبارة عن مجار محفورة بلا ملامح ولا أنف ولا أذن ولا حنجرة. نائل حزين حزين. يعض بنان الندم على الشعرة التي أصر على انتزاعها للآخر ويبكي عندما يكتشف أهمية العمق وأهمية أن يكون الإنسان له أساس صلب ومحدد ومتماسك يستند إليه. ويكتب هذه الحكمة المستفادة في أجندته حتى تنفعه في الأيام القادمة، لأن موضوع أن يكون للبني آدم وجها نسلت خيوطه كلها وصار كأنه لم يكن هو موضوع لم يكن أبدا مريحا على طول تاريخ حياة البني آدمين.

Friday, January 18, 2008

مراحل التحول إلى مثقف حقيقي

المثقف الحقيقي هو كائن متطور بالضرورة، ينتمي إلى مخلوقات وسط البلد المتطورة، والتي لها الحق في الحياة أكثر من غيرها من المخلوقات، لأنها تساهم في إعمار الكون أكثر.

***

المثقف الحقيقي معركته الأساسية في الشارع، يصيع في الشارع، ويشرب في الشارع ويشيش في الشارع، يحتقر قراءة الأعمال الذكية لأنها غير مرتبطة بنبض الجماهير ولا يختلط بنبض الجماهير لأنه لا يشهد أيا منها في التكعيبة والندوة الثقافية وبار ستيلا.

المثقف الحقيقي لا يجلس إلا مع زملائه المثقفين الحقيقيين، لا يقرأون وإنما يتحدثون عما سبق وقاله لهم زملاء مثقفون حقيقيون آخرون، هكذا يتم خلق أدب شعبي يتصوره المثقف أدبا غير شفوي وهو شفوي، ويتصوره في كتب وهو يجب أن يسمع على الربابة.

المثقف يحب أسماء بعينها، صلاح جاهين وفؤاد حداد والشيخ إمام وأبو النجوم، ويموت في أمل دنقل أكثر من أي شخص آخر، لأن أمل دنقل قال لا تصالح وقال أترى حين أفقأ عينيك وأضع مكانهما جوهرتين - والمثقف الحقيقي معه حق إذا زعل لو حد قال حجرين - هل ترى، هي أشياء لا تشترى.

المثقف الحقيقي لا يحب قراءة الأعمال المترجمة، لأن الترجمة تعطله عن الإحساس بالحالة في النص، وهو لم يقرأ في حياته إلا عمل واحد مترجم، اسمه مائة عام من العزلة لو كان قاهريا، وأعمال كفافيس لو كان سكندريا. لا يقرأ المثقف الأعمال باللغات الأجنبية طبعا، لأنه ليس كائنا فضائيا مثل الكائنات التي تقرأ باللغات الأجنبية، ولأنه ضد أن يكون المرء كائنا فضائيا، ولأنه يفضل أن يكون المرء معجونا بنيل مصر وطينها وليس كائنا فضائيا. المثقف الحقيقي لا يحب الكلام الكبير، لأنه يأخذ موقفا ضد الذكاء، ولأنه يأخذ موقفا مع الحالة، وتقريبا، فالحالة هي كلمة السر التي تتيح لنا الدخول إلى نفسية هذا المثقف الحقيقي العظيم.

يكره المثقف الحقيقي ويحب العمل الأدبي وفق "الحالة"، يعني هل هو حاسس العمل أم لا، وبالمناسبة: يجب على المثقف الحقيقي أن يكون حساسا وعالما روحانيا أيضا، لا يشترط أن يفهم شيئا وإنما يحس، والأرواح دوما تهيم في ملكوت الله ومعها تهيم روح المثقف المتواصل مع العالم .

المثقف الحقيقي يجب أن يكون إنسانا، ويحب الناس، وبالتحديد هو يركز على ثلاثة أنواع من الناس يحبهم بعمق وإخلاص، الحد الجميل والحد الحقيقي والإنسان بجد. ويتمسك المثقف الحقيقي، خاصة لو كان شابا حداثيا، بكلمة "قشطة" يرددها بين الحين والآخر، وقد نبذها المجتمع بأكلمه منذ عشر سنوات ونيف، وبهذا يتمسك بحقه الوجودي في أن يجترح لغة خاصة به. ويجترح كلمة مهمة أيضا بالنسبة للمثقف الحقيقي، خاصة إذا كان شاميا أو مغربيا.

المثقف الحقيقي هو يساري بالضرورة "ليس شيوعيا. إنه يساري" وعلماني بالضرورة، ويؤمن بحقوق المرأة والأقباط بالضرورة. لا يمكن للمثقف الحقيقي أن يكون عنصريا. إن هذا ضد قوانين الثقافة الحقيقية.


لهذا كله، فإن المثقف الحقيقي هو أجمد شخص ف الدنيا.

Friday, January 11, 2008

ذكورة الرواية التي بلا منازع

الزوجة تعترف لزوجها لعيب الكرة وهي على فراش المرض: أنا خنتك. ينظر لها مذهولا: امتى؟ تقول له: فاكر لما رئيس مجلس ادارة النادي ماكانش عاوز يضمك للفريق وبعدين رضي يضمك. يحس بالأرض تتهاوي به. تضيف: ومرة كمان. فاكر لما مدرب الفريق ماكانش بيرضى يحطك مع اللعيبة الأساسيين وبعدين رضي يحطك. إنه الانهيار الأعظم: وإيه كمان؟ تنظر للأرض: فاكر لما الجمهور كله ماكانش بيرضى يشجعك وبعدين بقى يشجعك.

ما تشرحه هذه القصة لنا ببساطة هو الآتي: أن أية فرصة للترقي في هذه الحياة، مشروطة بقضيب يتم إدخاله فينا، من ورا أو من قدام أو يأتينا من حيث لا نحتسب، من حيث حريمنا قاعدات في بيوتهن، أما الجائزة الكبرى، وهي الجمهور، فمشروطة بإدخال مليون قضيب لمليون شخص جمهوري "نسبة للجمهور وليس الجمهورية". هكذا يصير النجم نجما. لنترك الكرة جانبا إذن ولنتحدث عن الرواية.

***

تناهت إلى أسماعنا أخبار أن بعضهم في الآونة الأخيرة صار يكتب رواياته لأجل ترجمتها، يكتب عن المرأة والأقباط واليهود والديكتاتورية والأصولية، عن قضايا اجتماعية أو سياسية، لأن قراء الأدب العربي في الخارج كما نعلم هم جمهور من السوسيولوجيين بالأساس. حسنا، إنه زب السوسيولوجيا وقد تم إدخاله في الرواية العنيدة، وقد وافقت بعد امتناع. هذا مقدور عليه وهو مدان أصلا، ولكن حجم المعضلة أكبر بكثير:

البعض يكتبون الرواية ببهرجة لغوية عظيمة، واللغة آداة الشعر وليست آداة الرواية، والبعض يكتبونها بتفلسف كثير، والتفلسف فلسفة وهي علم قائم بذاته، والبعض يكتبونها برسالة وهدف، والرسالة تندرج في علم الأخلاق، والبعض يملأونها بالحيل والألعاب، بينما اللعب يعني لعب وليس "تعالى نعمل بنلعب" مثلما يحدث في الرواية، البعض يكتبون مشاهد عظيمة، وهو فن السينما، والبعض يكتبون شخصيات مركبة ومشحونة، وهو علم النفس، كلها بعابيص عابرة تدخل الرواية من حين لآخر، تخلصها من كونها رواية وتدرجها في مجالات مجاورة. أكثر الأشياء صعوبة هو رواية حصينة، بلا مداخل يمكن لقضبان الغير أن تدخل إليها منها. رواية تفرض نفسها على غيرها من العلوم والفنون المخنثة.

ولكن الأهم من كل شيء هو الجمهور. نكتب رواياتنا من أجل جمهور أكثر اتساعا، نضيف ما يعرف بالتشويق، نقطع قصصنا بشكل معين حتى لا يسقط القارئ بفعل الملل، نكتب بالعربي حتى يفهمنا، نتحدث عن أشياء يعرفها القراء جيدا، مثل البشر والشوارع والسيارات، وأحيانا الحيوانات والكائنات الفضائية، كل هذا يتم لأجل إقحام مليون قضيب لمليون شخص جمهوري داخل الرواية، وبعض الروائيين يفخرون بهذا.

***

يا إخواني، الصرافة صرافة، والتدفيش تدفيش، والرواية تعني حكاية، بلا سياسة ولا فلسفة ولا حيل وألعاب، بلا مشاهد ولا أوصاف ولا لغة ولا أفكار. يشترط في الرواية ألا يفهمها أحد، لأن الفهم مجاله الأحجيات العقلية وليس الحكاية، يشترط ألا يتمكن من تخيل أحداثها أحد، لأن التخيل مجاله البصر والبصر موضوع السينما والفن التشكيلي، يشترط ألا يكون إيقاعها مزبوطا، لأن الإيقاع مجاله الموسيقى، ويشترط أن تكون خلوا من كل موقف، فني أو سياسي. والحياد كما نعلم هو محض موقف، يجب على الرواية ألا تكون محايدة أيضا.

الآن، ندعو إلى رواية واحدة، رواية بذاتها، منيعة، حصينة، بكر، رواية لا تعني إلا نفسها، بلا أي شيء من حولها، ندعو إلى الرواية بألف لام التعريف، رواية ذكرة، لنكتبها مرة واحدة في التاريخ، ثم لنفعل ما بدا لنا بعد ذلك.

Friday, January 04, 2008

نحو المصرية المحملة بالورود والدلع كله

ولقد كان أكثر الأيام سوادا في التاريخ المصري هو يوم الغزو العربي لمصر، منذ ذلك الحين تغيرت الشخصية المصرية تغيرا دراميا، صارت أي كلام وكانت من قبل كفاءة.

لنتذكر جميعا ذلك الماضي المهيب قبل الغزو العربي، حين كان المصري إنسانا قبطيا، سويا، عظيما، جميلا وبهيا. كان المصري مصريا، لا عربيا ولا رومانيا، لا شرقيا ولا غربيا، لا نوبيا ولا أسيويا. ومصر كانت تعني مصر، بالتلات أحرف الساكنة التي هي، كما هو معروف، شاحنة ضجيج. وتقريبا، وهذا من واقع مراجعة دقيقة للتاريخ، فلم تحدث ثورات أو فتن أيام الفراعنة، لم يكن هناك فقر ولا ظلم ولا جهل ولا مرض، ونحن، نكرر، نقول هذا من واقع مراجعة كل التاريخ اللي في الدنيا. علينا هنا أن نؤيد بقوة وبحسم منهج كتابة مصر بأيدي مصرية ووفقا لوجهة نظر مصرية. ونردد: تحيا مصر على الدوام ويسقط الملاعين.

بعد الغزو لم يرضخ المصريون للعرب الأوغاد، وقد ظلوا يحاربون دفاعا عن فرعونيتهم طول الوقت، ويرفعون اليفط التي تؤكد أنهم فراعنة، بل وأكثر من ذلك، فقد كان الشعار الأكثر ثورية وقتها هو: "أنا مصري قديم أتحدث المصرية القديمة ولا أبهج أعدائي"، وفعلا، فلقد حافظ المصريون على اللغة القبطية الهيروغليفية، بإيمانهم المطلق أنهم فراعنة حافظوا على اللغة الفرعونية، ظلوا يتحدون بها الغزاة العرب والمماليك والعثمانيين وحتى أسرة محمد علي، يعني خد عندك مثلا: هل تعلم أن العامية المصرية هي كلها فرعونية؟ وأنه ليس بها كلمة عربية واحدة توحد الله؟ طبعا ماتعرفش. ومن يقول غير هذا فهو واحد من اثنين لا يجتمعان إلا هنا، وهابي سعودي سلفي متطرف، أو عبراني يهودي إسرائيلي ابن وسخة، ويشترك الاثنان في صفتي البداوة والنتانة، والحمد لله على نعمة النيل الذي ينظفنا من أشكالهم، نحن أبناء حضارة وادي النيل، ومش معقول أبدا أن يأتي رعاة الغنم ليتنططوا علينا.

المهم، لم تكن هذه هي الغزوة العربية الوحيدة[1]، لو راجعنا التاريخ كويس سنجد يوما آخر، مظلما وكئيبا، خرج فيه العساكر، وقد أطلقوا على أنفسهم اسم الضباط الأحرار، من ثكناتهم ليدمروا جنة عدن التي كانت لدينا هنا في مصر، قبلهم كانت مصر تتمختر في نعيم الأحزاب السياسية والليبرالية والتسامح والدساتير والحياة النيابية البهيجة، ولكن الأهم، كانت مصر قبلهم هي مصر، بالتلات أحرف إياهم، بلا زيادة ولا نقصان. جاء العروبيون إذن ليحولوا مصر إلى خرابة عربية كبيرة. الثورة كان معناها إننا بنمسي على العرب اللي حوالينا بينما العرب مايستاهلوش، اللي يستاهلوا بس هما السودانيين، لأنهم، لمن لا يعرف، رعايا مصريون، والأوروبيون ، لإن احنا، لمن لا يعرف، رعايا أوروبيين، وكل دا واحنا مصريين، أصحاب الهوية النقية والتراث الخالص والمصرية المحملة بالورود والرياحين والدلع كله.

الدرس المستفاد: هبل المصراويين والفراعنة لا يقل إمتاعا عن هبل العروبيين، ولا عن هبل الإسلاميين. لكل هبل نكهته الخاصة، وتفرده الذي لا ينكره إلا جاحد.



[1] لقراءة المزيد عن الغزوتين العربيتين لمصر يرجى مطالعة كتاب "حرية في الأسر.. مأزق الإصلاح السياسي والمواطنة" والصادر عن دار ميريت بقلم عادل جندي ، ربما يكون هو الكتاب الفكاهي الأعظم لعام 2007.