Tuesday, August 28, 2012

هويات متصارعة أو أين تقع مصر


كتب عبد الناصر يوماً، كما نعرف، أن هناك ثلاث دوائر تنتمي لها مصر، الدائرة العربية والأفريقية والإسلامية. هكذا كتب، والله أعلم بما كان يقصده. شخصياً، أشك كثيرا في حضور الدائرة الأفريقية في أذهان الخطاب المصري العام في الستينيات، ولكن على العموم، أهل الستينيات أدرى بشعابهم. هل تغير شيء الآن؟ بالتأكيد. انتهت هويات وصحت هويات. اندثرت عدة هويات، واخترقت الرأس المصري هويات أخرى، وتغيرت أشكال الهويات عن مثيلاتها أيام الستينيات. من يعتقد مثلا أن الانتماء العروبي أيام عبد الناصر هو نفسه الانتماء العروبي أيامنا، أو أن الانتماء الإسلامي، المرتبط أكثر وقتها بطلبة الأزهر الأسيويين ودول العالم الثالث، هو نفسه الانتماء الإسلامي أيامنا؟ لا شيء يبقى على حاله. الأيام تغيرنا.
وبعد، فهذه محاولة لحصر الهويات التي تخترق الجسد المصري كما تبدو من أفكار الخطاب العام السائد الآن. أحيانا ما تتصارع الهويات، أحيانا ما ترتبط ببعضها، أحيانا ما تبدو غير واعية بما يميزها عن غيرها، ولكن في كل الأحوال، لا غنى عن التمييز، ولو كان مجرداً تماماً، بينها وبين بعضها.

الهوية الإسلامية: هوية – على العكس من اسمها – لا ترتبط بالإسلام وبتعليماته في حد ذاته – وإنما ترتبط بالمسلمين. أينما أهين المسلمون في أي منطقة في العالم فالتعاطف معهم واجب، من يوغوسلافيا وحتى بورما ومن فلسطين وحتى العراق، من الشيشان المحاربين ضد الروس وحتى الأفغان المحاربين ضد الأمريكان، من مفجري الكنائس المحاربين ضد المسيحيين، وحتى المرشحين الإسلاميين المحاربين ضد المرشحين المسلمين غير الإسلاميين. لا شيء إسلامياً هنا، لا شيء أخلاقياً، لا شيء إلا الدفاع عن إخوتي في الدين، والرد على افتراءات أمريكا حول الإرهاب، وعلى افتراءات الأقباط حول اضطهادهم. يقولون إنهم مضطهدون، إذن أغرقهم مشاهد اضطهاد للمسلمين على يد الأديان الأخرى. هذه هي ساحة المعركة. الأكثر اضطهادا سيأخذ بونبوناية في آخر الحصة. تقول أمريكا: "المسلمون يحاربون العالم"، وترد الهوية الإسلامية: "العالم يحارب المسلمين". فرق كبير. ها؟ جدير بالذكر أن الهوية الإسلامية في مصر تبدو أحياناً وكأنها تحاول عامدة الخروج من مركزية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، لأن هذا الصراع احتكرته الهوية العربية منذ زمان طويل، وتحاول إيجاد أعداء لها بعيدين عن البؤرة الفلسطينية، تفتعل معركة مثلا مع "المد الشيعي"، تبدو أقل حماساً لحزب الله الشيعي في صراعه ضد إسرائيل. الهوية الإسلامية تحاول البحث عن دور مختلف في بلد أخذ كل خطاب فيها دوره وتمركز فيه.

الهوية العربية: غلبانة جداً. لا شيء يحميها غير خطاب مهلهل ظل يحارب دفاعا عن وجوده في العقود الماضية ثم انتهى إلى اللاشيء، لا تمثيل له في السلطة، لا وجود له في الوعي الجمعي. خطاب ليس محوره فقط "نحنا والعرب جيران"، وإنما "نحن والعرب هيتّة واهِد. الشكل هو هو، والدم هو الدم". الهوية العربية أيضاً لا تحارب ضد شيء ماعداً إسرائيل وأمريكا، لا فقر في البلاد العربية، لا بطالة، لا عنوسة، لا مجاري، لا شيء إلا إسرائيل وأمريكا، وأعوانهما من القوميات غير العربية التي تسكن في البلاد العربية، الأمازيغ والأكراد نموذجاً. وبرغم أن المرء يولد عربياً وفق هذا الخطاب، أي أنه منذ وجوده في بطن أمه وهو يشعر بالحنين للكوفة وحيفا ودمشق والقدس (انتبه، شمال أفريقيا غير موجودة)، إلا أن تحقق هذا الشعور ارتبط فقط بفترة الستينيات. تأمل كم الحنين الذي تشعر به عندما تسمع جملة صلاح جاهين/ عبد الحليم حافظ في أغنيتهما "المسئولية": "أحلف بكل صبي وصبية، بعيونهم الحلوة العربية"، لا يمكننا أيضاً نسيان انتعاشة الهوية العربية في التسعينيات على يد السيناريت وكاتب الأغاني مدحت العدل، حيث دوما ما تظهر في صراعات أبطاله فكرة محورية مفادها أن العرب لو اتحدوا فسيتمكنون من الانتصار على عدوهم، وهو إسرائيل دائماً، (وليس أمريكا حتى)، إسرائيل الممثلة في نجمة داود التي تظهر فجأة على شاشة كمبيوتر الأشرار (مافيا)، أو في يهودي شرير اسمه "يودا" يسعى للإيقاع بالبطل الطيب (همام في أمستردام). بعد انتشار كليب "الحلم العربي"، الذي ألفه العدل ولحنه حميد الشاعري وقال مطلعه: "أجيال ورا أجيال، هتعيش على حلمنا"، وغناه مطربون من كافة أنحاء الوطن العربي، استضاف أحد برامج التليفزون المصري مدحت العدل، قالت له المذيعة إن الرئيس مبارك دائما ما يدعو للسلام والتصالح. اعتبر مدحت العدل هذه المداخلة من المذيعة معادية لفكرة الهوية العربية، فقال لها مستدركا إن الرئيس مبارك أيضاً دائما ما يدعو للوحدة العربية. هكذا. استغل الطرفان الرئيس مبارك كأيقونة للتأكيد على فكرة الهوية العربية أو لدحضها.

الهوية المصرية: التذاكي في أقصى صوره. نحن لسنا مسلمين بالأساس، نحن لسنا عرباً بالأساس. (قد يكون بعضنا مسلما وبعضنا عربياً، عادي) ولكن علينا أن نرمي وراء ظهورنا تخلف الهويتين العربية والإسلامية، ونفكر في الهوية المصرية المتقدمة. مصر يا أول نور في الدنيا شق  ضلام الليل، احسبي عمر الخير في الدنيا يطلع عمر النيل. نحن أهل الزراعة والنهر والحضارة ومن حولنا بدو متخلفون. مصطلح "البدو" الذي طالما حيّرني يعني عدة أشياء: أولا الخلايجة الذين علمهم المصريون في إطار هجرة الأخيرين للتدريس ببلاد الخليج، ثانيهم اليهود، راجع النقاش الساخن حول  فيلم "المهاجر" ليوسف شاهين، وكيف استنكر المثقفون أن يأتي واحد من أهل الرعي "إسرائيلي، النبي يوسف"، ليعلم المصريين الزراعة، وثالثهم العرب كلهم، بمن فيهم من ليسوا بدواً، هو كدا، غباوة! ملحوظة أخيرة: الهوية المصرية ليست منغلقة تماماً، هي أصلاً جاءت للرد على شيوع الهوية الإسلامية، التي جاءت بدورها ردا على تهمة الإرهاب الإسلامي، ولكن لا شيء مصرياً في الهوية المصرية، لا شيء مخلص لمصر. في أغلب الأحوال فهذه الهوية المصرية المتذاكية هي تطور للهوية المتوسطية لمصر التي نادى بها مثقفون كبار في منتصف القرن الماضي. سنتفق أنا وأنت على أننا نحب الهوية المصرية التي لا تنتمي لشيء خارجها، ولكنني، أنا وأنت، نعلم أن امتداد مصر الذي نتمناه هو في شمال البحر المتوسط وأوروبا. شقتنا بحري وليست قبلي.

الهوية الشرقية: الصياعة المطلقة. تنتمي "الهوية الشرقية" لا إلى النخبة كالثلاث هويات الأولى، وإنما إلى "رجل" الشارع الحقيقي، مجتمع الطبقة الوسطى وما أدناه. لا شيء دينياً في هذه الهوية، وإنما هناك شيء أخلاقي صارم أحيانا ومتلاعب أحياناً أخرى. "احنا ف مجتمع شرقي"، هي الجملة المفتاح. المجتمع الشرقي مهووس بالحد من العلاقات الجنسية، خاصة إذا تعلق الأمر بعلاقات المرأة الجنسية، ليس بالأخص، فقط، فقط إذا تعلق الأمر بعلاقات المرأة الجنسية، لأن المجتمع الشرقي يعني أيضاً، فيما يعني، حرية الذكر المطلقة. على حد علمي، لم أر أماً تلوم ابنها العطاط باستخدام حجة: "احنا ف مجتمع شرقي يابني. الناس هتقول علينا إيه". لا. المجتمع الشرقي ضد الجنس إذا ما تعلق فقط بالمرأة. المجتمع الشرقي بالمناسبة مجتمع علماني، لا علاقة له بصلاة أو صوم أو دعم الإسلاميين في الانتخابات. المجتمع الشرقي يحشش ويسكر ويسرق، وشرقيته تنحصر في انحيازه للذكر بشكل واضح. "انا راجل شرقي"، تعني في الغالب معنى واحد: "من حقي اغير. ومن حقي افشخ البت اللي معايا عشان باغير. وهي هتنبسط اني باغير عليها لإن الستات عاوزين كدا، ولو هي فكرت تعمل زي ما انا بعمل يبقى ماينفعش عشان احنا ف مجتمع شرقي". في الغالب، يستخدم الرجل تعبير: "انا راجل شرقي"، لتصوره إنها تزيد من جاذبيته، أحمد السقا نموذجاً للفحولة الشرقية الأخلاقية الذكورية الجذابة. المجتمع الشرقي هو جنة الذكور.

هناك فارق نوعي كما قلنا بين الهويات الثلاث الأولى والهوية الأخيرة، الشرقية، وعلى الغالب، ففيما تبدو الهويات الثلاث الأولى نخبوية تماماً ومشغولة بالرد على سؤال: "أين تقع مصر"، فإن الهوية الأخيرة ترد بإجابة فريد شوقي، وهو رمز آخر للذكورة المصرية العنيفة والجذابة والقادمة من أسفل المجتمع، وهو يقوم بدور السلطان المزعوم لسلطنة بورنجا: "والله هي لسة ماوقعتش، بس مسيرها تقع بإذن الله".
____________________
نُشر في موقع "البديل" الإلكتروني بتاريخ 26 أغسطس 2012 

Wednesday, April 25, 2012

عمرو بيه: أنا أقدم واحد ف العمارة دي





في طريقي إلى فيلا عمر بيه، بمنتهى الأمانة، كنت موهوماً. رجل دولة حقيقي من الطراز القديم، ينتمي للزمن الحقيقي الجميل، قبل تشوه القاهرة بعمارات سرطانية تشوه الأفق وتحجب السماء عن أعين قاطنيها. الرجل الذي سألتقيه حالاً هو باشا، برنس بالمعنى الحقيقي.

ناولني عمرو بيه كأساً، ثم بدأ حديثه بأن سألني عما يحدث. قلت له إن هناك اعتصاما لأولاد ابو اسماعيل في التحرير، أخفى وجهه في الأرض ومصمص بشفتيه متمتما بكلمة غامضة. بدا يعاني ألماً نفسياً هائلاً لما آل له وضع مصر. نظر لي فلاحظت أن عينيه محمرتان. قال لي بأسف حقيقي: " فوضى شديدة. فوضى شديدة مفيش كلام. في الحقيقة أنا تقدمت بمشروع للحد من هذا الوضع، المشروع كان بيقوم على بنود عديدة لتقريب رجل الشارع من المطبخ السياسي، لكن ما يحدث الآن هو إن دا بيقول كلام، ودا بيقول كلام، فأنا كمواطن بسيط لا أستطيع أن أفهم، فماذا يحدث، اللي بيحدث هو نوع من الفوضى غير الحميدة، لا لا لا لأ، غير حميدة إطلاقاً. للأسف الثورة استغلها مجموعة من المنتفعين من النظام السابق. الوضع مؤسف فعلاً".

كنت مسحوراً بطريقة صياغة عمرو بيه لجملته. بدا لي هو الوحيد القادر – بالفعل، وليس بالقول – على قيادة الدفة المصرية لبر الأمان، وتقديم مشروع واضح للنهضة. ناولني كأساً آخر ثم واصل حديثه: "يعني قد إيه أنا بأسعد لما ألاقي واحد من أفراد الشعب مهموم بقضايا وطنه، النظام السابق كان بيحرمنا من رؤية شبابنا الجميل (يبتسم) ولا أخفيك إني كنت واحد من الناس اللي يائسين من وضع البلد. (يقهقه عالياً) دا حقيقي. ماتستغربش. احنا كنا مندهشين من إن إزاي الشباب دا طلع بكل هذه الوطنية وكل هذا الحب لبلده. (ينتقل للجدية) ولذلك في الحقيقة فمشروعي بيقوم في الأساس على دعم الشباب. وَ.. وَ.. وَ..وَ.. وبالتالي فيه مناطق في الصحراء الغربية أنا بَأندهش فعلا يا نائل بيه إنها ازاي غير مستثمرة لحد هذه اللحظة. شيء مثير للدهشة لأبعد الحدود، باكلمك بصدق".

الكأس الثالث: "الشعب المصري ذكي، ولذلك استحالة يتقبل مجموعة من الناس اللي استغلت الثورة – وباقولهالك بصدق يا نائل بيه، يعني من الكلام مع أفراد حملتي أثبتلي مقدار ذكاء هذا الشعب العظيم، هل تعلم حضرتك إن هذا الشعب العظيم بنى الأهرامات، وبنى حضارة عظيمة تمتد لسبعين ألف سنة (أفكر في أنه أضاف صفرا من عنده على الرقم المتداول، ثم أعاود التفكير في أنه فعل هذا لمقدار إيمانه بقدرة هذا الشعب على صنع المعجزات)، فهل إنت هتقنعني إن هذا الشعب سيأتي عليه يوم ويصدق مجموعة من ال.. ال.. ال.. هه؟ مش معقول خالص."

صمت طويل يعقبه إعداده كأساً لي بنفسه. ثم يستند على المخدة. يضع ساقاً على ساق. يبدو في وضع استراحة المقاتل. فجأة يتحدث بصوت خفيض: "أنا قلتلهم.. قلتلهم إن هذا غير قانوني وغير دستوري.. وللأسف كانوا بيروا إن الحل يمكن تأجيله، (يقوم فجأة، ينظر لي بعينين محمرتين تماماً) انا تم رفضي من أغلبهم. الجميع وقتها قالوا عمرو بيه مش عاوز يلايمها، عمرو بيه بتاع الكلام الجد، عال، سألتهم إيه البديل، فماحدش رد. احنا بندفع تمن.. تمن.. تمن.. تمن خطايا سياسية كبيرة جدا، خطايا سياسية، مش أخطاء سياسية، لا لا لا لا. الفرق كبير خالص".
مازلت منبهراً بقدرته على صياغة الجملة ودقته اللغوية. غير وضع الساق- على – ساق وقرر ثني ساقه اليمنى وإراحتها على الكنبة. ينام قليلاً ثم يصحو: "حضرتك عارف ان الأجانب. الأجانب بيقدروا الخمرة.. بيحترموها.. المصريين بيحبوا الحشيش (بابتسامة بعينيه الكحيلة) فرق كبير. هه؟"
ينعس قليلاً، يتصاعد صوت شخيره، ينسحب الروب عن سمانته المشعرة، منظر مقرف جداً، يع فعلاً، لكن معلش، فجأة يصحو. ويبدأ في الصراخ: "أنا أقدم واحد ف العمارة دي. أنا أقدم واحد ف العمارة دي". تبدأ أعصابه في الاسترخاء مرة أخرى، وتبدأ عيناه الكحيلتان في الانغلاق. يدندن:  "انا اقدم واحد فيكي، وامانك م اللي بانيكي، احنا في زمن المسخ، هه؟ مش صح؟ زمن مسخ مفيش كلام". ثم يعلو صوت شخيره.

Tuesday, March 13, 2012

"يا تقنعني يا اقنعك"



"كنت أراقبك وأنت تمارس رغبتك المريضة في تفنيد جميع حجج خصمك وألا تبقى له حَجَراً على حجر من نظريته"

عاموس عوز

من رواية "الوضع الثالث"

***

واحدة من أكبر الأكاذيب في تاريخ البشرية هي أكذوبة السجال، أو "يا تقنعني يا اقنعك".

على حد علمي ومعرفتي المتواضعة، لا أحد يقتنع بأي شيء رغماً عنه. أي: لا أحد يقتنع بأي شيء لا يريد الاقتناع به في الأصل، لا أحد يقتنع بشيء لمجرد أنه منطقي ولمجرد أن من أمامه استخدم حججاً أقوى في الإقناع.

في الغالب، يقتنع البشر بأفكار معينة لمجرد أنهم يريدون الاقتناع بها، أنا أسكن في منطقة فقيرة، لذا فعليّ أن أصدق أن هذه المنطقة المعفنة ناسها أطيب وأكثر دفئاً من المنطقة الراقية الباردة التي بجوارها. أنا أشتري موبايل صيني أرخص، فأضطر للاقتناع إن "إمكانياته قليلة صحيح لكني مستريح معاه". الإقناع يحدث بسبب عنصر آخر فعال، وهو "الزَنّ". أنا – كفتاة مثلاً– ولدت في مجتمع تتحجب كل فتياته، لم أر في حياتي فتاة غير محجبة، وجميع من حولي يؤكدون أن الحجاب فضيلة، لذا فمن الطبيعي أن أقتنع بالحجاب، وأن أؤكد لنفسي وللآخرين كل مرة أن "اقتناعي هذا نابع من عقلي". أنا – كفتاة مثلاً - عندما خرجت إلى وسط البلد لم أشاهد فتاة محجبة واحدة، ورأيت كل من حولي يؤكدون أن المحجبة هي امرأة تغطي عقلها قبل أن تغطي شعرها، لذا فمن الطبيعي أن أنظر للحجاب بوصفه "إيه الكلام القديم والبِيدان دا؟!"، وأيضاً سأؤكد لنفسي ولمن حولي أن "اقتناعي هذا نابع من عقلي". الزن على الودان أمر من السحر. لا يمكن أن يقول كل من حولك شيئاً وتقول أنت شيئاً مختلفاً ويكون ما تقوله هو الحقيقة. لابد لك من التصالح مع المجتمع.

كل شيء يؤدي إلى اقتناع الفرد بأفكار معينة، كل شيء، ما عدا، أن يجلس في سجال مع آخر، فيقنعه الآخر بـ"سحر بيانه" و"قوة منطقه وحجته" فيؤمن الأول بالفكرة التي كان قبل السجال معادياً لها.

***

السجال هو كلمة السر. هدفه المعلن هو الوصول إلى الحقيقة، الحقيقة المجردة التي سيظل الطرفان ينبشان للوصول إليها حتى يكتشفانها. هذا هو التصور البدائي لـ"السجال". ولكن هدفه الحقيقي والخفي هو الانتصار، طمع أي طرف في الانتصار على الآخر، تلك المتعة المجردة والبسيطة التي يخلقها النطق بالكلمة الأخيرة والشعور بهزيمة الآخر وبارتباكه، ببساطة. السجال لعبة كالطاولة. هل تغير الطاولة مصائر الشعوب وقناعات الأفراد؟ طبعا لا، ولكنها تحقق ذلك الزهو الشرير بالانتصار.

***

سيرد الكثيرون بأن الأمر مختلف. أنهم يتناقشون كثيراً لمعرفة الحقيقة مجردة عن أي شيء. لا رد لي عليهم. ما أقوله هنا ببساطة، هو وجهة نظري فيهم وفيّ، لا وجهة نظرهم هم في أنفسهم.

***

طبعا، يفترض في السجال أن يكون نزيهاً. أن تكون هناك رؤيتان مختلفتان يقتنع بها كل من المتساجلَيْن. وأن يعرض كل منهما تلك الرؤية بلا لف ولا دوران، وأن يظل الطرفان يتساجلان – بمنتهى الشفافية - حتى يقنع أحدهما الآخر برؤيته، والتي تمثل الحقيقة النهائية، والحقيقة واحدة وحيدة في هذا التصور. وكما يقول المثل الشعبي "يا تقنعني يا اقنعك". هذا لا يحدث أبداً. هذا فوق قدرات الإنسان، إنه كان ظلوما جهولاً. السجال لعبة قذرة، قذرة بمعنى أنها لا تسعى للوصول إلى الحقيقة، ولكنها، كأي لعبة، تحوي قواعد قليلة صارمة والكثير من الشفرات الغامضة فيما بين السطور.

***

منذ ما يزيد عن عام، أي منذ انفتاح المجال السياسي بقوة، وكثير من المصريين لا يفعلون شيئاً سوى السجال. تعد هذه اللحظة هي اللحظة المثالية لتناول موضوعنا هذا. انتظم المصريون (ربما منذ استفتاء 19 مارس أو قبله بقليل) في مسارين مختلفين، كل مسار يضم فريقين متناحرين. أحد المسارين هو مسار "علمانيين/ إسلاميين"، والآخر مسار "ثوار/ فلول". في أيام بعينها كنت أقرر ممارسة هواية السجال، لصالح فريق الثوار بالطبع (في الحقيقة فلقد فقدت اهتمامي بالجدال العلماني الإسلامي منذ شهور عديدة). في النهاية، لم أستطع إقناع أحد من الفلول بتبني الثورة، وأنا واثق أن الفلول أيضاً لم يتمكنوا من إقناع أحد من الثوار بتبنى موقف السلطة. من أقنعتهم كانوا مقتنعين بالأساس، ومن أقنعوهم كانوا مقتنعين بالأساس. بالطبع رأيت كثيرين يتحولون من موقف فلولي إلى موقف ثوري، أو من موقف ثوري إلى موقف فلولي، ليس بفضل وجاهة الإقناع ولا حسن البيان، وإنما فقط بفضل الزن. الزن مبهر. للزن طاقة رهيبة.

كثيراً ما مارست التدليس الثوري في السجال. عادي. كلنا مدلسون. يوم 10 فبراير سألني أحد المعتصمين في التحرير: "كابتن، انا عندي 35 سنة ولسة ماتجوزتش. تفتكر لو مبارك مشي انا هاتجوز؟"، أجبته بابتسامة: "طبعاً. تاني يوم". الآن، أستخدم الحجة النقيضة للإقناع بأن الثورة مستمرة: "انتو فاكرين الثورة تمنتاشر يوم وبس، ولا فاكرين ان تاني يوم مشيان مبارك كل حاجة هتبقى كويسة؟!"

ذات مرة أبهرني واحد من الفلول. كان يقنع المعتصمين في ميدان التحرير بأهمية الرجوع لبيوتهم، بينما أنا كنت أمارس "التوعية الثورية". استخدمت منطقاً لا يمكن دحضه بسهولة: "انا باقبض 500 جنيه ورئيسي في الشغل بيقبض ربع مليون جنيه"، دا يرضي حد؟" نظر لي أحد الوقوف بغضب شديد وسألني: "انت بتقبض 500 جنيه؟" قلت له: "ايوة". قال لي: "احمد ربنا. انا عاطل يا استاذ. اتطردت من المصنع بعد الخصخصة". قلت في نفسي أن الرجل هدف سهل للتوعية الثورية. شخص تم طرده من المصنع على يد حكومة رأسمالية، لابد أن ينضم لصفوف الثوار. واصل الرجل: "وحضرتك زعلان عشان بتقبض 500 جنيه؟" حاولت الإيضاح له بوجل وانا عاجز عن تفسير غضبه ضدي: "نحن نهتف من أجل حقوق العاطلين أيضاً". فقاطعني بغضب: "نهتف لمين؟ اهم حاجة اننا نحمد ربنا. لو حمدنا ربنا كل حاجة هتبقى كويسة." أوبااااا. عملها ازاي ابن اللعيبة دا؟

أحياناً ما ينمو السجال على مدار أيام طويلة. لنحاول أن نتذكر الآن جملا قصيرة، استخدم فيها الثوار المنطق العائلي واستخدم الفلول المنطق المضاد للمنطق العائلي:

- الجيش عرا اختك ف التحرير.

- وهي ايه اللي وداها هناك.

- تخيل لو دي كانت اختك.

- ماحدش يقولي لو دي كانت اختي! انا اختي ماتروحش التحرير.

هذا المنطق والمنطق المضاد استغرق أياما طويلة – بعد بدء أحداث مجلس الوزراء - كي يتشكل، كلمة من هنا على كلمة من هناك على مانشيت صحفي، كل هذا لكي تصبح أربع جمل هي عنوان السجال حول الأحداث.

نفس المنطق، والمنطق المضاد، تمت ممارسته من قبل. ولكن، يا للعجب، مع تبدل الملاعب أثناء فترة الراحة بين الشوطين. من استخدموا المنطق العائلي كانوا هم الفلول والمنطق المضاد للمنطق العائلي كانوا هم الثوار:

- شوية عيال بيشتموا راجل ف سن ابوك ف التحرير.

- وهو ايه اللي خلاه يتشتم. ما كان يمشي بكرامته.

- يا جماعة اعتبروا مبارك ابوكم.

- ماحدش يقولي اعتبر مبارك ابوك! انا ابويا اشرف منه.

-

***

منذ أسابيع طويلة، حاولت مقاربة هذا الموضوع، باستخدام تيمة واحدة من تيماته، وهي تيمة "العقل ولا القلب"، أي مَن مِن العقل أو القلب هو الذي يمكن باستخدامه إفحام الطرف الآخر في السجال؟ طبعاً، وكالعادة، لم يهتم الكثيرون بالموضوع. عادي. أعرف هذا الموضوع فيّ منذ زمن طويل، ما أهتم بصدق به، ما أجدني أفكر فيه طول الوقت منفردا مع نفسي، لا يهم الكثيرين غيري.

***

مسار آخر من مسارات السجال التي تمتلأ بها أيامنا الصاخبة تلك، هو مسار "علمانيين/ إسلاميين". مسار متشعب ومعقد ومثير للاهتمام للغاية. بطبيعة الحال، فالعلمانيون هم الأكثر حنكة في إدارة السجال، هم الأفضل تعليماً في الغالب، وهم من يجيدون استعمال المصطلحات، لكن بالنسبة لاختبار "النزاهة"، و"محاولة الوصول للحقيقة"، فلا فضل لعلماني على إسلامي ولا العكس. ليس هناك شيء اسمه "نزاهة" في العالم، وبالطبع، ليس هناك شيء اسمه "الحقيقة".

تدربنا كثيراً - كـ"مثقفين"، أو، بأقصى قدر من الدقة، كمنشغلين بالشيء الذي يسميه البعض "ثقافة" - على حروب "حرية التعبير". مثلاً، يطالب أحد الإسلاميين بمصادرة كتاب ما، فيكون أول سؤال لهذا الإسلامي: "هل قرأت هذا الكتاب"؟ الرد سيكون واحداً من اثنين، إما نعم أو لا، ولكل من الردين رده الخاص. إن قال الإسلامي "نعم" فسيكون الرد عليه: "كيف تطالب بمنع ما سبق وقرأته أنت؟ هل تمارس الوصاية؟ هل تعطي لنفسك الحق الوحيد في القراءة؟" وإن قال "لا" فسيكون الرد: "كيف تعترض على كتاب لم تقرأه أصلا؟" أنت مفقود مفقود يا ولدي.

الإسلاميون أيضاً يفعلون هذا، بشكل أبسط. حين تعترض على شيء ما ينادي به الإسلامي، مثلا "الحجاب"، مثلاً "اللحية"، فسيبادرك بالسؤال: "أخي، إنت مؤمن بالإسلام؟" إن قلت نعم فسوف يقنعك من داخل نصوص الإسلام أن الحجاب فريضة وأن اللحية فريضة، وإن قلت لا فأنت كافر، وسيبدأ محاولته لإقناعك بالإسلام من البداية. الإجابة، أي إجابة، هي فخ.

مصر هي عنوان كبير للسجالات. كان مدهشا لنا أثناء "موقعة الجمل"، كيف أن كلاً من الفريقين المتطاحنين كان يحمل علم مصر. المعارضون لمبارك كانوا يهتفون بحب مصر، وكذلك المؤيدون. ولكن الموضوع أيضاً له جذور في المسار العلماني/ الإسلامي. طيب، لنتأمل قليلا قضية التمويلات الأجنبية التي أثارها الإسلاميون والفلول. من أثاروا القضية وضعوا عنوانا "وطنياً" لمعركتهم ضد "المتظاهرين ومراكز حقوق الإنسان والعلمانيين"، لقد بدا هنا الإسلاميون والفلول وكأنهم الأكثر وطنية. في نفس الوقت، وفي جمعة قندهار، كان واحداً من أبرز اعتراضات العلمانيين والثوار على هذه الجمعة "السلفية" هو رفع علم السعودية في ميدان التحرير. لقد صور العلمانيون السلفيين وكأنهم ضد مصر، ووضعوا هم أيضاً "عنواناً وطنياً" لمعركتهم. وبينما يتحدث الإسلاميون عن "الاتجاهات الغريبة التي لا تلائم مجتمعاتنا"، ويقصدون بها "الاتجاهات الغربية، مفهوم الحرية المطلق، العلمانية"، فسوف نجد العلمانيين أيضاً يستخدمون نفس الحجة المجتمعية والوطنية، حين يهاجمون "الوهابية السعودية المتزمتة الغريبة عن إسلامنا السمح والوسطي". نفس الحجة لكن الفاعلين يتبدلون كل مرة.

شخصياً، أعتقد أن لا أحد يهتم فعلا بـ"مصر". وبشكل صادق، فأنا لا أعتقد أن في "مصر" هذه، بحدودها ودستورها وعلمها ونشيدها الوطني، ما يثير الاهتمام. القوميون العرب يؤمنون بالوحدة العربية، الاشتراكيون يؤمنون بالأممية، الإسلاميون يؤمنون بدولة الخلافة. من ليسوا قوميين ولا اشتراكيين ولا إسلاميين يؤمنون بعملهم ومرتباتهم. لا أحد يعني بـ"مصر"، ولكن مصر هي عنوان جاهز للاستخدام السجالي.

نفس الأمر ينطبق على فكرة "القانون". لا أعتقد مطلقاً في وجود ذلك الشخص المؤمن بالقانون كما هو مكتوب، المخلص له والمستعد للاستشهاد في سبيله. الناس في الغالب يؤمنون بـ"الحق". و"الحق" هنا يعني: "الحق من وجهة نظرهم الشخصية"، ولكن لأن الحق مفهوم نسبي يختلف من شخص لآخر، يضطر الجميع للاحتكام، أو للتظاهر بالاحتكام، للقانون. الإسلاميون هائجون اليوم ضد من يريدون "إسقاط الدولة"، أي إسقاط الدولة بمفهومها القانوني، وكثير من العلمانيين هائجين ضد الجماعات الإسلامية المحظورة قانوناً" أو يرفعون أصواتهم ضد "استخدام الشعارات الدينية في الانتخابات"، وهو الأمر الممنوع قانوناً. القانون ممسحة جاهزة للاستخدام في السجال.

***

أمثلة أخرى لـ"مفقود مفقود يا ولدي" في السجال:

1- مثال للانتصار الثوري:

- الجيش قتل الناس في ماسبيرو. الجيش قاتل، وعشان كدا يسقط حكم العسكر.

- لا. المدرعة اللي موتت الناس ماكانتش بتاعة الجيش.

- يعني اتسرقت؟

_ آه اتسرقت.

- يعني الجيش بتتسرق دباباته. يبقى الجيش فاشل، وعشان كدا يسقط حكم العسكر.

(يصمت مهزوماً)

2- مثال للانتصار الفلولي:

- دي صور الشهداء اللي الجيش قتلهم.

- والجيش عنده شهداء أكتر. اشمعنى بتقول دول شهداء وشهداء الجيش مش شهداء؟

- فين شهداء الجيش؟ فين صورهم؟ الجيش بيكدب علينا.

- طبعاً لأ. لكن الجيش أكبر من انه يتاجر بموته. الجيش بيضحي بعساكره عشان مايولعش ف البلد.

(يصمت مهزوماً)

***

في الأيام السابقة فكرت كثيراً في علم جديد، وهو علم "السجال". سألت عن وجود هذا العلم من عدمه في دراسات العلوم الإنسانية فلم يفدني أحد بوجوده. كان هذا مدهشا بالنسبة لي. لو تأسس العلم سيفتح أبوابا كثيرة لفهم شيء عن الحقيقة وعن المنطق وعن قوة منطق ما إزاء منطق آخر. ما فائدة هذا العلم؟ لا أعلم، ولكن ما فائدة دراسة علم التاريخ؟ ما فائدة لعب الطاولة؟ ما فائدة السجال في حد ذاته؟ لا شيء على المدى القريب. فقط المتعة.

في المرحلة الثانوية درست عن "علم الكلام". لم أتعمق فيه. ولكن مفهومه ظل ساحراً بالنسبة لي. فكرت أن "علم الكلام" ليس علماً، هو ممارسة، حاول "علماء الكلام" إقناع غيرهم بالإسلام، وطوروا آليات جديدة ومختلفة كل مرة للإقناع. لم يكونوا فلاسفة. لم يكونوا باحثين عن الحقيقة ولم يدعوا أنهم باحثين عن الحقيقة. كانوا "يعرفون الحقيقة" من البداية، وهي أن الإسلام حق، فقط انصب جهدهم على معرفة كيفية يمكن إقناع غير العارفين بالحقيقة. ما أريد دراسته هنا ليس مجرد "كيف استطاع علماء الكلام إقناع غيرهم بالإسلام"، ولكن أيضاً "كيف استطاع التبشيريون إقناع غيرهم بالمسيحية"، "كيف استطاع السفسطائيون إقناع الآخرين بالحقيقة ونقيضها". علم السجال ليس علماً سفسطائياً، ولكنه يهتم بدراسة آليات السفسطائيين، يهتم بدراسة مناطق القوة ومناطق الضعف في السجال، يهتم بدراسة عملية "الإقناع" الفاتنة.

وفي النهاية، الله أعلم، قد يكون مثل هذا العلم موجوداً. الدنيا دي فيها كل شيء.