Friday, September 05, 2008

كتابة الجسد.. جسد الكتابة


"هذا ليس مانيفستو، فأنا لستُ من محبّذي المانيفستات والعرائض والبيانات." هكذا تبدأ جمانة حداد مقالها المنشور في كيكا حول المجلة المزمع إصدار عددها الأول قريبا من بيروت، مجلة (جسد)، والتي أسستها ورأست تحريرها. وبرغم هذه البداية الصاخبة، فهي تنتج مانيفستو، أو على الأقل، مقالا يحوي جميع مواصفات المانفيستوهات: وهم السبق، اليقين التام، طغيان السياسي على الفني، ورؤية الكفر كله ملة واحدة، هو ملة المشككين في نجاح المجلة أو المعترضين عليها.

"جسد" هي مجلة تعني بآداب الجسد وفنونه، ترسم لنا جمانة من البداية المحظورات التي تنتهكها مجلتها:

"مجلة ورقية تُعنى بـ"آداب الجسد وفنونه". وهي، كي "تزيد الطين بلّةً"، مجلة باللغة العربية. وهي، فوق هذا كلّه، مجلة ترأس تحريرها امرأة. أي أنها "كوكتيل مولوتوف" برسم الانفجار".

تعي حداد البعد السياسي للمجلة، تعي أنها جاءت لتعادي أناسا ولتهدم ثقافة ولتحل ثقافة محلها. بل وما يتجاوز الوعي بقليل: على طول بيانها لا ترى غير هذا البعد السياسي، لا ترى الجسد الذي تدافع عنه، وإنما ترى حربها ضد أعداء الجسد الذي تدافع عنه. ترى عداءهم له وترى عداءها لهم. بهذا المعنى، بدا البيان – على الرغم من عدم تفضيل الكاتبة لكلمة بيان – غاضبا بشدة، يعرف أعداءه بشدة، ولكنه لا يعرف أصدقاءه، ولا يعرف نفسه. الجنس في البيان التحم بالتابو، وباختراقه، بلا انفصال. ليس من جنس مرتاح هنا، وإنما جنس محارب. ليس من جنس رائق ومسترخ، وإنما جنس يستهلك طاقته في محاججة خصومه، في تخليص نفسه من قيوده وتابوهاته (تتحدث جمانة في هذا الفيديو عن لوجو المجلة وكونه اللوجو المثالي: كلمة جنس تتخلص من قيودها). لا جسد هنا وإنما الدفاع عنه فحسب، وإذا لم يكن الجسد موجودا، فدفاعا عن أي شيء نحارب إذن؟ هذا لا يحدث بالطبع إلا في المانيفستوهات والبيانات التأسيسية.

2

على العموم، ليست تلك إلا مشكلة هامشية، أما الخطر الأساسي من وجهة نظري في المقال، فهو مماهاة مفهوم الجسد بمفهوم الجنس. الجسد الذي تتصوره جمانة حداد هو جسد لا ينفصل عن الجنس، وبرغم أهمية ما يسمى بالجنس، إلا إنه يتقاطع فحسب مع الجسد، ولكنه لا يتماهى معه. أجسادنا كثيرة، أجسادنا تسمن وتنحف، ويتم تسمينها وتنحيفها، أجسادنا تتشوه ويتم تشويهها، نقوم بالتعذيب ويتم تعذيبنا في أقسام الشرطة انطلاقا منها، يتم التدخل الطبي فيها بمشارط الجراحين، أجسادنا تنمو، تترهل، تضعف، يتم التحكم فيها عن طريق صالات الجيم ومراكز التجميل، كل هذا تم تغييبه لصالح جسد واحد، هو الجسد الجنساني. ربما لأن الجسد الجنساني هو الذي تم تصوره أكثر تسيسا، أكثر إثارة للجدل، وأكثر تحطيما للتابو.

ولكن، على الناحية المقابلة، فالجسد الذي يتعرض للتعذيب في أقسام الشرطة، والجسد الخاضع لعملية تجميل، والجسد الخاضع للريجيم، بإمكانه أن يكون جسدا سياسيا هو الآخر، مثيرا للجدل ونستطيع من خلاله تأمل ما هو أبعد منه.

3

وحتى لو قبلنا بهذا الاختزال للجسد في الجسد الجنساني، فإن البيان يبدو محتشما وجماليا لحد كبير. (جسد) ليست مجلة بورنوغرافية، هذا ما تقوله جمانة وهي تعدد التعريفات السلبية لمجلة (جسد)، وأي وهي تعدد كل ما ليست (جسد) عليه. تستدرك أنها لا تتنصل من مفهوم البورنوغرافية. هل يعني هذا أنها ترى البورنوجرافيا أمرا جميلا، أو طبيعيا؟ لا. بالعكس تماما. تضيف:

"نحن نعيش في لبنان ما يكفي من البورنوغرافيا السياسية والاجتماعية والاعلامية والفنية والثقافية والعقلية والفكرية والأخلاقية، كي لا نخشى الأقل ضرراً بين أنواع من البورنوغرافيا: أي النوع الحرفي والمباشر."

أي هي تنسب للبورنوغرافيا كل الكوارث التي يمر بها لبنان الآن، تستعمل "بورنوغرافيا" كوصمة لكي تسب وضع البلد. تستجيب لسائر المجازات التي تربط أفعال الجنس بالشر، تقول وهي تعدد مظاهر النفاق الاجتماعي في الوطن العربي:

"ننهى عن المنكر بيد، ونمارس الدعارة الفكرية (وهي الأدهى (الجنسية) باليد الثانية".

أو:

"نسمّي نشر قصائد أو قصص أو نصوص أو ترجمات تنتمي الى الكتابات الأدبية الايروتيكية في مجلة ثقافية عربية: بورنوغرافيا."

هكذا يمكننا أن نفهم عدم تنصل الكاتبة من لفظ "البورنوغرافيا". لم يكن هذا نابعا من فرط التحرر، وإنما من فرط الاحتشام، على ما يبدو.

4

تعدد جمانة التعريفات السلبية ل"جسد". ليست "جسد" مجلة بورنوغرافية، وليست مجلة نضالية ذات قضية، وليست مجلة وعظ وإرشاد، وليست نزوة ظريفة، وليست مجلة منوعات فنية. هكذا تقلب الطاولة على التعريفات المتوقعة للمجلة، ولكنها عندما تبحث عن تعريف إيجابي، يبدو هذا أصعب ما في الموضوع. فتلجأ للتهويم:

"(جسد) مشروع ثقافي وفكري وأدبي وفني جدّي، تطلّب الكثير من التفكير والتمحيص قبل أن يتبلور ويتكوّن. وهو مشروع ينتمي الى الجسد، جسد الحياة، جسد العقل وجسد القلب وجسد اللغة."

جسد الحياة وجسد العقل وجسد القلب وجسد اللغة، أي جسد يتعلق بالحياة والعقل واللغة؟ الكاتبة هنا تلجأ للتهويمات لأجل توسيع حدود الموضوع الذي تتحدث عنه، وهذا التوسيع المبالغ فيه، يهدم جذريا علاقة العنوان بالموضوع. ما الذي تعنيه كلمات مثل جسد الحياة، وجسد اللغة؟ لا أعتقد انها تعني الكثير، وربما أزيد فأقول أنها أتت فقط لسبغ القيمة على موضوع المجلة. الجسد في حد ذاته موضوع هامشي، ولابد من ربطه بالحياة والعقل واللغة، حتى تصير له قيمته الفكرية. حتى يصبح أمرا جادا.

5

ليس ما هنا هو مجرد تهويم، وإنما أمر مضمر بالاستجابة له وتصديقه. الأمر لا يتعلق بقصيدة نكتب فيها هواجسنا وإنما بمقال يتخذ، رغما عنه، من "الحقيقة" معيارا. وإذا ما تم دمج الخيال الشعري في المقال، فإن الأمر يثير الدهشة. تبرر جمانة كون مجلتها "ورقية" وليست إلكترونية قائلة:

سؤال: "لماذا لم تجعلي "جسد" مجلة الكترونية، لتجتنبي بذلك أي رقابة محتملة عليها؟"
جواب: "لأن الورق من أرقى الاجساد التي يؤتى لنا أن نلامسها، ومن أشهاها. ولأن "الدخول من الباب الضيّق"– مثلما قال أحد العظماء منذ نحو الفي عام– أجمل من رحابة الطريق الانترنتية؛ أليس كذلك؟!

ليس كذلك بالطبع. أو على الأقل، ليس هناك ما يفرض بأن يكون الأمر كذلك، سواء أحد العظماء وهو يتحدث عن الباب الضيق أو جمانة وهي تقرر أن الورق من أشهى وأرقى الأجساد، فكلاهما يتحدث عن مجازه الرومانتيكي الخاص، والشخصي تماما، ولا يفترض أبدا أن يشاركهما القارئ هذا المجاز. أليس كذلك؟!

لا أنكر الإثارة التي انتابتني وأنا أقرأ عن مجلة تختص ب"آداب الجسد وفنونه"، ولا أنكر أنني أتمنى منها الكثير، وأعتقد أنها ستكون من أهم الإصدارات في الفترة الحالية. ولست مؤهلا للحكم على مجلة لم أقرأها ولم يصدر منها عددها الأول بعد. كل ما أردت قوله هو بعض الملاحظات على مقالة جمانة حداد بخصوصها، وعلى خطاب يتحايل على الجنس بالزعيق العالي حوله، وبتجميله بالإيروتيكا، ويرى الجنس جسدا والجسد جنسا.

6 comments:

Unknown said...

والنبي يا عم نائل أنا باحب مدونتك قوي بس انت بتقول ايه انا مش فاهمة حاجة ... ممكن تفهمني .. ايه طغيان السياسي على الفني ويعني ايه مانافستو اصلا وايه المماهاة دي ... قصدك يعني انها سابت الموضوع ومسكت في الدفاع عن الموضوع ومهاجمة الناس إلي ضد الكلام عن الموضوع ؟ بيتهيألي ده طبيعي وبصفتي واحدة بتحب تتكلم في الموضوع ده بالذات فأنا شايفة ان احيانا بيكون مستحيل نتكلم عن حاجة تانية ليها علاقة بيه غير بشكل دفاعي هجومي ومن المستحيل الكلام عنه من غير الاصطدام بالقيود عليه حتى في عقولنا نفسها ... لكن عجبتني فكرة الجوانب الاخرى للجسد غير الجنس بس برده الناس انت عارف تعبانه والشقق غالية والخلق تغم ... وبرده صعب نتحرر من المسألة دي أو بمعنى ادق نتحرك منها لمسائل تانية مهمة برده ... ياااه أنا رغيت كتير بس في حاجة لسة مضايقاني ايه البورنوجرافيا السياسية دي؟

Misrdream said...

رغم ان الموضوع لا يعنيني فى شيء
الا انى فعلا اسمتعت باسلوب كتابتك
;)

لا أحد said...

تعرف
تنفع منظر كبير
استمر
اعانك رب العباد
هههههههههههههههههههههههههههه

Hilal CHOUMAN said...
This comment has been removed by the author.
بنت القمر said...

كميه الغرور والصلف اللي في مقالها الافتتاحي غير طبيعيه!! نموذج جاهز للرجم اجتماعيا
يلا ما علينا
حكايه الجسد بقا
علي ما اعتقد انه حين يخفت الحديث عن الروح{للاسف} يعلو الحديث عن الجسد{الجنس}
باعتبارهم اصبحوا متضادين وغير متكاملين للاسف ايضا!!

nael eltoukhy said...

نهى
تمام، لكن بما ان مستحيل نتكلم عن الجنس بدون ما نكون دفاعيين او هجوميين فدا معناه ان مفيش حاجة نتكلم عليها اساسا، لان كلامنا ساعتها هيبقى عن حاجة تانية، عن الدفاع او الهجوم، مش عنه، لما نتعلم نتكلم عنه بروقان وعلشان احنا بنحبه، بيتهيالي دا هيبقى الطف ساعتها
بالنسبة لمعاني الكلمات الصعبة
طغيان السياسي على الفني: يعني الكلام في السياسة كان اكتر من الكلام ف الفن
مانفيستو: بيان
المماهاة، تخلي الاتنين حاجة واحدة
اما البورنوجرافيا السياسية فانا عمري ما قلتها ف البوست دا
:p

ميسردريم
متشكر يا ريس عالمجاملة
دا من ذوقك يا معلم
:)

لا احد
ميغسي بوغ فوتغ كومبليموه

هلال
:))


بنت القمر
ملاحظتك بالنسبة للمقال سليمة
بالنسبة للروح مش عارف، مش مؤمن اوي بالروح للدرجة دي، ومش زعلان ان الكلام بيخفت عليها، وبيتهيالي الكلام عن الجنس موجود في كل وقت وف كل مكان، سواء فيه كلام عن الروح او لا، الكلام عن الجنس احتياج بشري