Friday, April 25, 2008

ثانيا: نجم والإسلامبولي.. يوم قتل الزعيم

للإسلامبولي، قاتل الفرعون، القزم، الخائن أنور السادات:

بهذه الكلمات يهدي أحمد فؤاد نجم واحدة من أهم قصائده إلى الإسلامبولي، قصيدة يصدرها ب"منين أجيب ناس لمعناة الكلام عارفين". وتقريبا فكل مقطع من مقاطع القصيدة ينتهي ب"العارفين". كان العارفون واحدا من أسس القصيدة، كان نجم يرثي حالهم، أو يوبخهم، أو ينتصر لهم، ولكن الأساس المتين للقصيدة، كما يبدو من الإهداء، هو البطل، القاتل، الراقص، الفتي، المتطهر من الزمن، الصحابي والقديس، خالد الإسلامبولي.

لسنوات طويلة فتنتني هذه القصيدة، ولازالت تفعل. وبالمفهوم الذي تناقشنا حوله الأسبوع الماضي، فقد كانت هي الأكثر بلاغة، مجازات بعد مجازات بعد مجازات، يا دين أمي، نجم هو صانع الكيتش الأكثر حرفنة لليسار المصري. وبعيدا عن التعليقات المتشنجة، فأن يكون المرء صانعا محترفا للكيتش، لهو أمر يستحق الاحترام، وطبعا لا أحتاج للتأكيد على أن حديثي هنا جاد للغاية.

***

في البداية، قبل ظهور الإسلامبولي، يكون كل شيء زي الخرا:

ركب الأغا ع البلد ركِّب عليها الخوف/ خاين قليل التنا جاهل عديم الشوف/ خان التراب والهوا خنق الضمير في الجوف/ وداس بنعل الوطا ع الحق والعارفين/ مين في البلد يا بلد كان صوته من راسه/ يحسب يكيد العدا ويصون وداد ناسه/ دار المدار بالخرس وسقانا من كاسه/ مين تحت حكم الأغا ينطق يقول عارفين

هكذا: الدنيا كلها ظلام في ظلام، تضيق البلاد والعباد بالظلم، وتضج الحناجر بالشكوى، أو "بالخرس"، والاثنان سيان. وفجأة يظهر خالد. من أين وإلى أين لا أحد يعرف. كفارس أتي من المريخ ليصلح الأرض ثم يعود إلى وطنه يظهر، كروبن هود يحق العدل ثم يرحل وتتساءل الناس عنه من يكون يظهر، فتى بلا شبيه: "أصل الحكاية ولد فارس ولا زيه"، فتى لم ينبت في الزمن الذي ولد فيه وإنما في زمن آخر: "وكبرت برة الزمان اللي ابتلاك بينا". كبر خالد في زمان مشرق، مشمس، وليس زمن الخريف الذي خيم على مصر السبعينيات، مثلما خيم على نجم وغيره: "خالد يا ابن الربيع والأمل والشمس والزينة/ مين يا فتى أعلمك فعل الخريف فينا". خالد تنحدر جذوره من ماض آخر بعيد، أباؤه ليسوا هم أباء نجم، ولا أقرانه "خَد من بلال ندهته/ ومن النبي ضيه، ومن الحسين وقفته، في محنته وزيه/ قدم شبابه فدا والحق له عارفين". يسارنا العظيم أحيانا ما ينتقد الإسلام "بشكل جذري في أحيان قليلة وبشكل مراوغ غالبا"، ولكنه يستوحي منه رموزه الخلابة. في سعيه المحموم ليكون أكثر شعبية، وليخاطب الناس الذين يتحدث باسمهم، يتخلى اليسار قليلا عما يؤمن به، ونجم هو ملك الرموز التي يحبها الناس، ولكنه ليس ملك المنطق المتماسك، كما عرفنا من قبل.

***

ولكن خالدا، المقطوع من شجرة، والمفصول تماما عن عصره، وإنما ينتمي إلى زمن آخربعيد، يظهر له فجأة أعمام وأخوال: "هندك يا أدهم هنا أصلك وسلسالك/ والناس يا خالد هنا عمك هنا خالك." فجأة يظهر أهل لخالد، وهؤلاء الأهل هم "هنا" وليسوا في الزمن الآخر البعيد. طيب. هنا نطرح سؤالا عن مدى صدق العم نجم عندما فصل "خالدا" عن "هنا"، وجعله ينتمي ل"هناك"، لبلال والحسين والنبي، هل كان نجم صادقا بالفعل؟ هل كان واعيا بالفعل لخطورة مايفعله؟ مممممم. ربما لا، ربما لم يكن نجم بقوله "وكبرت برة الزمان اللي ابتلاك بينا" أكثر من شخص يصوب السهم نحو نفسه ليعطي كلامه المزيد من المصداقية، ولكن ساعة الجد، هو يعرف كويس اوي أنه، ومن معه، الأخيار، والآخرون هم الأشرار. خالد نشأ وتربى في الزمن الذي نشأ فيه نجم، ونجم ينتمي للناس وخالد ينتمي للناس، ونكتشف فجأة، من زلة لسان خفية، أن خالد هو بني آدم عادي، وليس صحابيا ولا قديسا، كما أراد نجم تصويره.

***

"مين يا فتي علمك لعب العصا ع الخيل/ وازاي قطفت القمر من فوق شواشي الليل/ وطبعت نجم السما بالوشم على زندك"

إطلاق النار على السادات يتحول في قصيدة نجم إلى رقصة. القتل يتحول إلى لعب مع الحب والقمر والسماء. نجوم الفلك، وليس خالد فقط، قد رقصت بالضي تتعانق يوم قتل السادات، كما يصرح نجم. في التدوينة السابقة، وفي الردود عليها، عرفنا الكثير عن تمجيد العنف، صبغه بصبغة رومانسية حالمة، جعل القتل فعلا مرادفا للحب والحرية. ودائما ما كانت الاستعراضات العسكرية، من النوع الذي قتل فيه السادات، هي ميدان واسع يلتصق فيه الفعلان، القتل والرقص، الاستعراض والسلاح، تحويل السلاح إلى مادة للمتعة، تحويل القتل إلى لعب بالعصا على الخيل. في بداية القصيدة هتف نجم ل"يا جرحي يا غنوتي"، الجرح هو الغنوة، الألم هو الفن، والقتل كذلك. تحويل الدماء إلى مشهد، إلى فن، كان دائما هو الخلطة السحرية لأيديولوجيات القرن العشرين، ونجم لم يكبر برة الزمان، ولا الزمان قد ابتلاه بينا.

قصيدة أحمد فؤاد نجم الفاتنة، والمهداة إلى خالد، هي ميدان واسع للعب النقدي الحر، للمزيكا، للتجول بها يمين وشمال ولفهم أشياء كثيرة جدا عن أشياء كثيرة جدا. حمل من هنا.

Friday, April 18, 2008

نجم، في مذمة العدو الأكثر بلاغة


حقيقة بسيطة يحدث أحيانا ان نخجل من الاعتراف بها: أعداؤنا هم أعداؤنا لأنهم سيئون ونحن جيدون، وليس لأي سبب قدري أو يتعلق بالله والمصير. ولو لم يكونوا سيئين ونحن جيدون، فلماذا نحن أعداء إذن؟ هذا كلام الناس العاقلين، وما يتبقى لنا إذن، كي نصبح حياديين، هو أن نعترف بقدرة أعدائنا هؤلاء، بقوتهم وبمهارتهم، أي باختصار، بكل الأشياء التي لا يصبحون بفضلها أصدقائنا، بكل الأشياء التي لا يصبحون بفضلها "جيدين". كان أحمد فؤاد نجم دائما واحدا من أعدائي هؤلاء.

***

لنقل في البداية، أن أحمد فؤاد نجم كان دائما واحدا من هؤلاء الأشخاص الذين تميزوا بقدرتهم على قول الكثير جدا من الكلمات الرنانة والقليل جدا من الأمور المقنعة. احترمت فيه دائما بلاغته، قدرته على تجميع الكيتش كله في قصيدة واحدة - وبهذا يجعل من الكيتش الخاص به هدفا سهلا وواضحا للتصويب أيضا - قدرته على التعبير بقوة عما يفكر فيه المصريون، أو عما يعتقد أنهم يفكرون فيه، على أن يكون واضحا ومفهوما وبسيطا، على أن يكون ناقلا أمينا للمجازات والرموز، المتاحة أصلا، حتى بينما المطلوب هو التمرد على هذه الرموز والمجازات. من هذه الناحية، فنجم لم يكن ثوريا أبدا، كان دائما خادما أمينا ل"الشعب المصري"، والخادم الأمين بطبيعة كونه كذلك لا يكون ثوريا. ومثله في ذلك مثل الكثير من الكبار والصغار، المنشغلين دوما بتكويم الرموز على الرموز (وهو ما أسميه بال"بلاغة") بدون أية محاولة للتشكك في هذه الرموز، مثله مثل أناس كثيرين، بدءا من ناجي العلي ومحمود درويش، وحتى خالد كساب، صاحب الرموز الضرب شمساوية الشهيرة.

***

الصورة الأدبية لمصر كانت دائما صورة شابة، فلاحة، رشيقة، تنظر لفوق الذي هو المستقبل، كما نجدها عند اثنين من صانعي الرموز، صلاح جاهين ومحمود مختار، وخلافا لهذه الصورة، نجد نجما قد اختار صورة أخرى، أكثر ارتباطا باللاوعي المصري على ما اعتقد هو، وأعتقد أنا معه: "سلامتك يامه يا مهرة، يا حبالة، يا ولادة.. سلامة نهدك المرضع، سلامة بطنك الخضرا"، هكذا يصف نجم مصر المريضة والتي ستتعافى قريبا. كانت مصر عنده امرأة خصبة، ولود، لا يمكن تخيلها رشيقة بحال، وقوية "فالزمن رايح وهي جاية"، كما نعرف جميعا. صورة مصر التي رآها مرتبطة بالأرض بلا هوادة، بخصوبتها وخضرتها، هي الصورة التاريخية التي تشكلت في أذهان المصريين منذ قديم الأزل، وهي صورة لا علاقة لها بغواية الأنثى بحال، وإنما فقط بخصبها. لا ننسى أن نجم هو خادم الشعب المخلص، وليس خادم الصور الأدبية الجاهزة. وفي خدمته بإخلاص للشعب لم يكن يفعل شيئا في الواقع. فما يقوله للشعب، هو ما يعرفه الشعب أصلا. ما الذي فعلته إذن يا أبا النجوم؟

***

المرثية الشهيرة لجيفارا، بعنوان "جيفارا مات"، هي ليست مرثية فحسب، إنها مانيفستو ثوري أيضا. قرب نهاية قصيدته بقليل يسخر نجم من عصر البطش الأمريكي: "خلاص خلاص، مالكوش خلاص.. غير بالقنابل والرصاص، دا منطق العصر السعيد.. عصر الزنوج والأمريكان، الكلمة للنار والحديد.. والعدل أخرس أو جبان"، هذا هو المنطق الذي يعاديه نجم، منطق عصر الزنوج والأمريكان، غير أن المنطق الذي يقترحه لا يقل عسكرية هو الآخر، فصرخة جيفارا للعبيد تحوي نفس المنطق الذي سخر منه نجم لتوه، وبنفس الكلمات تقريبا: "يا تجهزوا جيش الخلاص، يا تقولوا عالعالم خلاص"، وفي أغنية أخرى بعنوان "يا فلسطينية" يصرخ نجم: "ناري ف إيديا، وإيديا تنزل معاكو، على راس الحية، وتموت شريعة هولاكو". يشكو نجم كثيرا من سياسة القوة، الأمريكية والإسرائيلية، من شريعة هولاكو، ولكن الخلاص في تصوره لن يتحقق إلا بعنف مقابل، والعنف المقابل يصبح هو العنف الشرعي. حرب الدم والدم، الموت والموت، النار والحديد، تصبح هي مجازه الخلاب. والبندقية هي بطلة الحياة، لا الموت: "بالبندقية نرسم حياتنا الجديدة". لنقل أن نجم يساري، أو على الأقل، كان يساريا، ولا أعرف ما الذي أصبح عليه الآن، وارتبط هو بالنغمة الأكثر خفاء في اليسار بشكله الكلاسيكي، النغمة العسكرية، نغمة القوة، نغمة جيش الخلاص. هنا يمكن لنا القول أن كثيرا ممن ارتبطوا باليسار يوما ما لم يفعلوا هذا لأن اليسار كان يدعو للحرية أو العدل، وإنما لأنه دوما تواجدت به نبرة دموية، فوضوية، قوية وعنيفة، وهؤلاء هم الذين كانوا ليصبحوا جمهورا سهلا للنازيين والفاشيين، فقط لو توافرت لهم الظروف المناسبة. وبما أن التاريخ لا يمكننا من تقرير أي من النبرتين كانت دخيلة على اليسار: نبرة العدالة أم نبرة الثورة الدموية؟ فإننا نكتفي بالرصد التاريخي. نجم التقط نبرة الثانية بقوة، وعبر عنها بقوة، وأمكن لمحبيه أن يصلوا إلى أورجازمهم الثوري عبرها، بقوة أيضا. "يافلسطينية فيتنام عليكو البشارة، والنصرة طالعة من تحت ميت ألف غارة". مجاز الخلاص الذي يخلق من بين الدمار، هو مجاز قديم قدم الكتب المقدسة. نعرف أنه "كلما ازدادت الدنيا ظلاما اقترب الفجر"، وهي حقيقة من حقائق الطبيعة وتحولت إلى مجاز سياسي، مجاز متعطش للموت والدمار، لأن معناه المزيد من الخلاص. كلما ازدادت الغارات على رؤوس الفلسطينيين، كلما ازداد نجم يقينا في نصرهم، هذا هو المجاز القديم، وهذا هو نجم وهو يطوعه ليلائم ما يحدث حوله في العالم: "والشمعة والعة، والأمريكان في الخسارة، راجعين حيارى عقبال ما يحصل معاكو"

***

الرابطة التي أقامها نجم بين "العمال والفلاحين والطلبة"، تحولت فيما بعد إلى شعار لحركات المعارضة، شعار يضم الفئات التي تم تصورها أكثر براءة وثورية في المجتمع. الطلبة هم الأكثر ثورية إذن. متى حدث هذا؟ وهل حدث قبل، أم بعد عودة التلامذة للجَد تاني؟ ليس هذا، والعياذ بالله، محض استظراف سمج من جانبنا. إنه سؤال آخر، يتصل بحالة العودة والتي بمقتضاها "رجعوا التلامذة يا عم حمزة للجد تاني". عودة التلامذة للجد تاني، تفترض أنهم في وقت ما كانوا بعيدين عن هذا الجد، وكانوا منشغلين عن القضية بسائر الأمور التافهة، الكورة مثلا، والأونطة، والمناقشة وجدل بيزنطة، والصحافة والصحفجية، فوجود الفرع يقتضي وجود الأصل بالضرورة. وبرغم هذا الاعتراف الضمني، إلا أن نجم لا يصور لنا أبدا هذا الفترة المعيبة من حياة التلاميذ، وإنما ينساق وراء ثورتهم، مع زملائهم في النقاء، العمال والفلاحين. (بالضبط مثلما تفعل الصحف القومية. أول يوم إضراب: الأمور تسير على ما يرام. ثاني يوم إضراب: عاد الهدوء إلى البلاد. هو كان الهدوء راح فين؟ هذا هو السؤال الذي لم تجب عنه صحافتنا). نعرف جميعا، حتى بدون الاستغانة بأغاني وجيه عزيز، أن التلامذة يعني الأمل، والبراءة، وبكرة، وكل الحاجات الكويسة ف الدنيا، ولم يكن نجم مستعدا أبدا للتخلي عن هذا الرمز لكي يكون أكثر منطقية مع نفسه، أو أكثر واقعية، على الرغم من التصوير الدائم له بأنه "الأكثر واقعية"، في مقابل أولئك الغارقين في متاهات المجاز والرموز والفوازير، أي في مقابل شعراء الحداثة.

***

"نوارة بنتي، النهارة تبقى، بتخطي عتبة، ليوم جديد"، ولأن نوارة كانت طفلة وقتها، فلابد أن تكون بتخطي عتبة ليوم جديد، ولابد أن "تحظى مصر السعيدة بيهم، ويبقوا ليها ويبقوا ليهم"، لا وجود لأي احتمال آخر، أو لتجميع آخر للرموز. نجم هو الأكثر بلاغة، والبلاغة من البلوغ، أي الوصول، وبالتأكيد فقصائد نجم تصل للناس بسهولة، لأنها لم تغادرهم أصلا، لم تتحرك خطوة واحدة غير متوقعة، والبعض بالتأكيد ، ومنهم نجم كما أتصور، يرون في هذا أمرا غير سيء، إن لم يكن خلابا.

هام: تم تغيير فقرة من فقرات التدوينة، وذلك لملاحظة نوارة نجم بخصوص قصيدة "الفلاحين" والتي قمت بتحليلها باعتبارها من قصائد نجم، فما كان منها إلا أن صوبت لي المعلومة، فما كان مني إلا أن استعنت ببعض القصائد الأخرى لنجم لأدلل على ما ذهبت إليه، واستدعى هذا بالتالي محو بعض الأسطر، وتغييرات أخرى طفيفة. فشكرا نوارة وعذرا للخطأ

Friday, April 11, 2008

التخريب الفضائي: من المجرة الأخرى إلى ما تحت السجادة

ما يتفق عليه الجميع، على الأقل الآن، بين الحكومة والمعارضة، بين من دعوا إلى الإضراب ومن اعترضوا عليه، هو رفض التخريب.

في كل من الخطابين، الرسمي والمعارض، تم دفع أعمال التخريب التي تمت في مدينة المحلة إلى منطقة بعيدة، لا تمثل أحدا، منطقة تقع في كوكب وسديم آخرين. تبرأ منها الجميع. المعارضة قالت أن الأمن هو من دس عناصره بين المتظاهرين ليقوم بتشويه صورة الإضراب، أما الحكومة فقامت بتصفية فكرة الإضراب عن طريق التلويح بورقة التخريب. وعن طريق المماهاة بين خصومها السياسيين والمخربين، فقد اعتبرت المخربين كلهم هم من بخارجها، من يقفون في صف المعارضة. لم يشر الخطاب الحكومي إلى الإضراب و إنما إلى التخريب، وبهذا الاستبدال لمعاني الكلمات تمكن من تحطيم فكرة الإضراب، وبالتالي فقد برأ نفسه وبرأ "شعبه" من تهمة التخريب، ف"عمال المحلة يرفضون التخريب والإضرار بممتلكات الغير"، ولذا وجه الرئيس مبارك إليهم التحية، كما نعرف. هكذا ظل التخريب بعيدا، ظل موجودا في معسكر الأشرار، الذين لا يمثلون ولو واحدا بالمائة من الشعب، إنهم دائما وأبدا محض صفر.

***

كثيرا ما كان يتم توجيه الأعمال غير المرغوبة - قتل غير مفهوم الأسباب، فتنة طائفية، اغتيالات سياسية- إلى منطقة الجنون. عبر الدفع بأن الجاني مختل، أمكن كنس الزبالة كلها إلى ما تحت السجادة. بدفع كل الأعمال التي نكرهها والتي لا نرغب في مناقشتها بشكل علني إلى عمق المرض النفسي، يمكن للمشكلة أن تظل غامضة، ويحمينا هذا من 1 – مناقشتها باستخدام المنطق، لأن الجنون لا يناقش منطقيا - 2 – حلها، لأن حل الجنون هو المزيد من الجنون، وليس العقل بالطبع.

ما حدث في الأيام الماضية كان شيئا آخر: تم دفع التخريب، عبر الاكتفاء بوصفه بالتخريب، وليس الجنون، إلى منطقة الشر الخالص. لم يكن للتخريب هدف ولا سبب ولا غاية، كان تخريبا وخلاص، كان تدميرا غير مبرر. كان مثل شر الشياطين، بلا منطق ولا عقل، وفي هذا كان شبيها بالجنون.

عدم تبرير التخريب كان منهج الخطاب الرسمي، وليس الخطاب المعارض. الأخير ادعى أن التخريب تم من قبل الأمن بهدف تشويه صورة الإضراب، ولكن الخطابين اشتركا في عدم إعطاء صوت للتخريب. الكل ألقى بالكرة في ملعب الآخر. الكل تبرأ منه. المعارضة مسئولة عن الإضراب، والحكومة مسئولة عن قمع المخربين، والتخريب نفسه ظل بلا أب، بلا صوت ولا منطق ولا محركين.

***

النتيجة هي العقلانية المفرطة التي ظهرت عليها صورة الشعب في خطاب المعارضة: الشعب ثائر، ولكن ثورته تتم بشكل سلمي، ولا شيء يدفعه للخروج عن القضبان التي رسمتها له المعارضة ورموزها، ومعها تقاليد العمل السياسي السليم، وحتى في الظروف المهينة التي يعيشها، فإن الشعب يظل ابن ناس، متربي كويس، نضيف وعاقل ويسمع كلام معارضته بلا نقاش، لا يزيد عليها ولا ينقص منها. هذا هو الشعب الذي تريده المعارضة، شعب مدجن، ينتمي للحياة والحب، والثورة، "باعتبارها فعلا ينتمي للقيمتين الأولين"، ولا وجود لأي أثر من قوى الجنون والدمار بداخله، شعب لم يشوهه النظام، وامتثالا لأوامر المعارضة، فهو عصي، أبي، صامد، لأنه يقف خارج التاريخ أساسا.

الشعب الذي تريده الحكومة لا يختلف كثيرا: شعب طيب، حنون، يفرح برغيف العيش إذا وجده، وإذا لم يجده فلا يتوقف عن حمد الله. شعب لا يحارب إلا الأشرار الذين يزايدون عليه ويقومون بأعمال التخريب باسمه، وهم منه براء، هو شعب خارج التاريخ أيضا، أسطوري ومثالي.

هكذا تم كنس زبالة التخريب الى تحت السجادة، فلم يعد أحد يراها ، وفي قصص نبيل فاروق، فإن خلية واحدة من جسم الوحش تبقى في نهاية القصة ولا أحد ينتبه لها، لتصبح بشارة على تحولها القريب إلى وحش كاسر يشبه بالضبط ذلك الذي تخلص منه أبطال القصة لتوهم.

Friday, April 04, 2008

وخلق الله من صلبه نائلا

في البدء كان الطوخي.. والطوخي كان من عند الله.. ثم خلق الله من صلبه نائلا..

في البداية بالزبط لم أكن مبسوطا. أحسست أن شخصا ما ضربني بمطوا في وشي فصار شكلي علامة أمام الرايح والجاي، وان يكون وشك علامة فهذا ليس شيئا جيدا، خصوصا إذا وضعنا في الاعتبار أنني لم أكن أبدا شخصيا اجتماعيا تماما. عندما كان أحدهم يسألني عن اسمي وكنت أقول له نائل، كان يستوضحني ثانية. كثيرون استوقفهم اسمي، استوقفهم بمعنى توقفوا عنده، وتوقفوا عنده ليس لأن المطلوب هو المزيد من الفهم، وإنما المزيد من الاستماع، وكان هذا مربكا بالنسبة لي.

أن يحيا المرء باسم غريب فهو أمر يشبه الندبة، ويشبه الديفوه في وجهك الذي يحدثك عنه كل الناس، وأنت لا تريد منهم الحديث عنه، ليس لأنك تكره هذا الديفو فحسب، وانما أيضا لأنك زهقت من الكلام عنه، وتحاول ان توضح هذا للناس، وهم لا يقتنعون، لان كل واحد منهم يكلمك عنه يكون غير الذي قبله، والجديد يمارس لاول مرة اللعبة ويراها مسلية، وانت لعبتها من قبل كثيرا وتراها مملة. وكان لدي في الكلية زميلة اسمها آثار الحكيم. سألتها السؤال الحتمي: أيهما سبق الآخر، اسمك أم اسم الممثلة؟ أجابتني بأنه اسم الممثلة، وأضافت أنها سُئلت هذا السؤال عدد شعر رأسها (ملحوظة عابرة: لم أعرف أبدا عدد المرات التي سُئلتْ فيها هذا السؤال، لأنها كانت، ببساطة يعني، محجبة). المهم، عرفت حينئذ أن هذه اللعنة ليست مرتبطة بي فحسب، وإنما بآخرين أيضا، واللعنة كلمة تحبها نهى محمود[1] (مضافا إليها كلمات أخرى مثل "التعاويذ السرية" أو "السحرية"، مثل "الحب" و"التراتيل" و"الساحرات" و"جنون العشق الأبدي"). ونهى بالمناسبة سألتني مرة عن شعوري عندما عرفتُ أنني أملك الاسم الأجمل بين أسماء جميع إخوتي، فرددت عليها بابتسامة ودود ورائقة: الله يخليكي يا نهى. وتقريبا فلقد اعتبرتها إجابة مقنعة، لأنها لم تسألني بعد ذلك نفس السؤال، فشكرا نهى.

في باص المدرسة في الاسكندرية كانت الدادة تناديني باستخدام صيغة فاتنة "يا ناير"، وكنت أحكي هذا لماما فكانت تضحك وتقول لي: قل لها أنا فبراير مش يناير، وتقعد تضحك، وانا لم أعتقد أن قولي لها أنا فبراير مش يناير سيحل الموضوع. بالعكس، فقد كان العيال سيضحكون أكثر، وضحك العيال لم يكن شيئا مبهجا تماما بالنسبة لي، وتقريبا فلقد اعتقدت أن ماما كانت تضحك طول عمرها ف سرها على اسمي، طيب يا بنت الحلال ليه وافقتي عليه ف الاول؟ لا أحد يعلم. وأنا اسمي ليس لا أحد. اسمي، كما تعرفون، هو نائل، ولولاه لما كتبت هذه التدوينة.

قرأت مرة رواية اسمها "بابل مفتاح العالم[2]". قرأتها بشغف، لسبب أكثر بساطة بكثير من الحبكة والزمن والشخصيات وكلام المثقفين: البطل كان اسمه نائل، وأنا لم أقابل في حياتي شخصا اسمه نائل، وفي المرات النادرة التي سمعت فيها هذا الاسم يتردد أمامي عن شخص غيري، كنت أحس أنني في فيلم. المهم، عندما قرأت الرواية (وبالمناسبة، فالرواية أيضا تتحدث عن الندبة، وهي تشير في عبارة قصيرة للغاية إلى أن نائل هو اسم غريب جدا، ومضحك، وكان صاحب الجملة يشفع جملته بضحكة سوقية على ما أذكر)، أقول عندما قرأت الرواية شعرت أن الدنيا مازال فيها خير يا أولاد، فهل يعقل أن يناقش كاتب، يحمل أيضا ذات الاسم، في جملة واحدة مشكلة حياتي الأبدية، ويربطها بالندبة وبتشوه الوجه!؟ لم أكن أحلم بأكثر من هذا طول عمري، فشكرا نائل.




[1] أديبة جميلة وصافية، تعشق الورد والشوكولاتة والدباديب، لها آراء ثورية في الكتابة، فهي ترى أن من يكتبون كتابة بذيئة عليهم تقليد كتابة الرومانسيين والشرفاء والمستحميين، لا العكس.

[2] "بابل مفتاح العالم" هي رواية للكاتب المصري نائل الطوخي، تناقش عدة إشكاليات في ذات الوقت، أهمها فيما أتصور هي الإشكالية التي سأتحدث عنها في الأسطر القادمة.