الأشياء في مصر، وربما في غيرها، تبدأ هكذا: صغيرة بسيطة حمقاء
السادة الفاهمون في لحظة من لحظات الملل يلتفتون إليها، ويسألونها لماذا هي صغيرة بسيطة حمقاء، ويبدأون هيلا بيلا في تكبيرها، حتى تصبح جديرة بأن يتكلموا عنها.
خذ عندك مثلا: هناك حتة قماش تضعها المرأة على رأسها، ونحن نعرفها من زمان، نراها في الريف وفي الصعيد وفي مدن بحري، (مع استثناء فترة شخلعة قصيرة – حوالي تلاتين سنة). يعني هذه الحتة من القماش شيء عادي جدا، وبسيط جدا، طبيعي جدا. كانت صغيرة بسيطة حمقاء، كما تبدأ الأشياء في مصر.
تقريبا حصل غلط. السادة الفاهمون في الفقرة قبل السابقة، ليسوا سادة فاهمين، وانما هما سيدان فاهمان، علمنا الاتجاه المعاكس وفيصل القاسم انه ليس هناك سوى سيدان فاهمان في كل موضوع. وبشرط أن يكون كل واحد منهما فاهم عكس ما يفهمه زميله بالزبط عن نفس الموضوع. نظر السيدان الفاهمان إلى حتة القماش الصغيرة المسكينة، وقالوا لها: تعالى يا زغنونة. لماذا أنت صغيرة بسيطة حمقاء؟ تعالى تأكلين من أكلنا وتشربين من شربنا وتلبسين من لبسنا، وتصبحين واحدة منا.
واحد من السيدين كان يحب أمريكا، وهو يحب التدخل الأمريكي في العالم العربي، وهو يحب الحداثة، وهو يحب التقدم، وهو يحب التطور، وهو ضد الإرهاب وهو ضد الأصولية الوهابية الظلامية التكفيرية السعودية الخليجية، والآخر كان يحب الإسلام، ويتمنى العودة إلى ألف ونصف ألف سنة من الزمان، وهو يحب الصحابة وهو يحب السواك ويكره أمريكا والغرب وإسرائيل والدانمارك وأستراليا، ويكره منظمات حقوق الإنسان والأمم المتحدة واليونسكو، وتقريبا هم هكذا منذ زمان أوي، لأن الأشياء في بلادنا، وربما في غيرها، لا تزهق من نفسها بسرعة. ولكنهم لما شافوا حتة القماش، اكتشفوا أنهم زهقوا من كلامهم، لانهم بيقولوه من زمان اوي، وقالوا هناخد حتة القماش دي، ونربيها، يمكن تنفعنا بعدين.
المهم، كبرت حتة القماش. وكبر سيد أمريكا. وكبر سيد إسلام. وتلقت حتة القماش المهمة التي نذرت لها بفرح خاص. تلقت اسمها الجديد "الحجاب" بامتنان لأبويها اللذين ربياها. كانت تقول: لم أعد وحيدة الآن، هناك من الصوحاب ألف، نقاب وإسدال وخمار. وتذكرت أيام كانت شيئا بسيطا صغيرا أحمق، وقالت لأنني كنت صغيرة فلقد كنت وحيدة. ونظرت لأبويها اللذين ربياها، ووجدتهما يتعاركان، واسمها يتردد في العركة، وخمنت أنهما يتعاركان بسببها، وامتلأ قلبها بالأسى، ولما عاد أبواها من الخارج متعانقين، قالت بتنهيدة: إن كان يرضيكما أن أخرج من حياتكما فأنا لا أمانع. مسح الأب الأول، السيد أمريكا، على رأسها وقال: يا عبيطة. مازلت إذن صغيرة بسيطة حمقاء. وباسها الأب الثاني، السيد إسلام، على أورتها وقال: لماذا ربيناكي إذن إن لم يكن علشان نتخانق بسببك؟ كميلة إنتي، وابتسم. واصطحب كل من الأبوين الأب الآخر إلى أودة النوم، وبعد قليل ناديا عليها. ذهبت إليهما مبتسمة ابتسامة خجلى، يشع حياء الأنثى من عينيها، تقدم رجلا وتؤخر أخرى، وفي أود النوم دائما تحدث أشياء لا يشترط أن تكون مهذبة تماما.
كل يوم كان يضيف لها معرفة جديدة، وذاكرة جديدة، وجرحا جديدا. صارت مثقلة بالمعرفة، وبالرموز وبالحقائق. وكانت تجلس في البيت ندمانة تندب أيام جهلها عندما كانت مجرد قطعة قماش لا بها ولا عليها، كانت تجد أبواها يتخانقان حتى يكادا يقطعان بعض فيمتلئ قلبها بالحب والنور والفرح، الفرح لأن القدر ساقها إلى هذين الأبوين الطيبين الذين جعلا منها شيئا مهما إلى كل هذا الحد.
مرض السيد أمريكا، وحزن عليه السيد إسلام فمرض هو الآخر. كان أصحابهما يأتون لزيارتهما في مرضهما فكانا يشيران إليها ويقولان لأصحابهما: هي صاحبة البيت من بعدنا. وصار أصحاب السيد إسلام يقبلون يدها، وصار أصحاب السيد أمريكا يقبلون يدها.
السيد إسلام مات، ولم يستطع السيد أمريكا العيش من بعده، فمات. وهكذا صار أصحابهما وأبناء أصحابهما يتوجهون في البيت إلى السيد حجاب، وهو غير سيد حجاب بطبيعة الحال، وصاروا يعادون بعض من أجله ويصاحبون بعض من أجله، حتى بعد رحيل السيد أمريكا والسيد إسلام. ونسي السيد حجاب عندما كان مجرد حتة قماش صغيرة بسيطة حمقاء، وطويت للأبد هذه الصفحة المظلمة في تاريخه وتاريخ البشر.

و م اليوم دا يا حبايبي والحجاب بقى حاجة كبيييييرة ومهمة اوي ف حياتنا