
استنادا إلى التقرير الصحفي المنشور في البديل "17/7/08"، وكتبته هدير المهدوي، فإن المخرجة الصحفية الشابة، نهى الرشدي، عندما تحرش بها سائق النصف نقل، طلبت العون من الواقفين في الشارع. قال بعضهم لها: "ماتشوفوا أنتو لابسين إيه؟". صدمت نهى، وهي تقوم بدور الضحية في القصة، من منطق رجل الشارع، وكذلك صدم الكثيرون ممن علقوا على الخبر. ما أريد ادعاؤه أن الموضوع لم يكن صادما لهذه الدرجة، ولا الفتاة كانت ضحية لهذه الدرجة، وأنه ربما كان عليها فعلا أن "تشوف هي لابسة إيه"، وهذا ما أتت التدوينة لتفعله.
أبعد شيء عن أهداف التدوينة هو تبرئة السائق، أو الادعاء الساذج بأن الذنب الأساسي هو ذنب الفتاة، كما يدعي دوما مجتمعنا، ولكن التدوينة لم تأت أيضا لتبرئ الفتاة بشكل مطلق، وإنما لتبين كم أن كل الناس يقعون في منطقة بين البراءة الكاملة والإجرام الكامل.. سموها لعبة إن شئتم، ولكن الهدف هنا هو رصد المجتمع، كما يرى نفسه لا كما تراه نخبته المثقفة، و يتم ذلك الرصد عبر تضخيم الذنب الصغير وتجاهل الجرم الخطير، فقط لكشف أن العنف، ما كان منه بدنيا أو رمزيا، ما كان تافها أو جسيما، ليس مقصورا على فئة دون فئة، وأنه العنوان الأوسع لحياتنا الآن.
***
لنبدأ من البداية: إذا افترضنا أن هناك فتاة ما، تلبس ملابس قصيرة، شفافة، ضيقة، أو مكشوفة، أو لا تغطي شعرها، أي أنها تمارس ما يسمى "بالتبرج"، في بلد تحول الاحتشام فيها بالتدريج ليصبح هوسا، فما الذي تفعله تلك الفتاة هنا؟ إنها تعلن عن تحكمها في جسدها وملكيتها له في وجه مجتمع لا يقنع بهذا التحكم ولا هذه الملكية. هذا الإعلان هو فعل عنيف، إنه محاولة لكسر تقليد مجتمعي، وتحطيم عقلية وبناء أخرى جديدة، هذا هو الغرض "السياسي" من فعل التبرج (ناهيك عن أن هذا الفعل العنيف جاء ردا على فعل مجتمعي عنيف آخر يفرض على المرأة الاحتشام/ الاختفاء). والحديث هنا بالطبع عن المسلمات، هن من يكون "سفورهن" فعلا واعيا بذاته ومعروفة أبعاده. وهناك أغراض أخرى وراء التبرج بالطبع: ترغب الفتاة "المتبرجة"، (ويشاركها الفتى المتأنق في نفس الرغبة، حتى لو لم يكن هو موضوعنا) في التأكيد على اختلافها وعدم عاديتها. هي تريد إثارة عدة مشاعر في نفس الوقت، ليس أولها هو الشهوة الجنسية، يسبقها أحيانا الإعجاب، والتعجب، والاستهجان، والسخرية ربما. باختصار، هي لا تريد أن تكون مثل "الآخرين العابرين"، وإنما أن يكون هؤلاء "الآخرون" منفعلين بها، معجبين، مستثارين، أو غاضبين. وأن تكون ذاتها، هي الفاعلة بهم، هذا هو المبدأ العدواني الكامن في "ما يسمى بالتبرج"، مبدأ الفاعل والمفعول، ولفظ "العدواني" هنا ليس سبة، وإنما هو صفة بشرية تماما، خاصة إذا ما تعلق الأمر بالعدوانية الرمزية، لا البدنية.
ما سبق يؤكد أن الحديث هنا ليس هو الحديث الساذج عن "فتاة تسير "في حالها" فهجم عليها الأشرار لاغتصابها." خاصة إذا ما وضعنا في الاعتبار شخصية الفتاة ضحية التحرش: كونها مخرجة سينمائية، أي انتمائها لما يعرف "بالإنتلجنسيا"، وكونها تملك بعضا من المظاهر الاجتماعية للثراء، وفي النهاية، قوة شخصيتها التي دفعتها لاقتياد السائق إلى قسم الشرطة وتحرير محضر ضده ولامبالاتها بجميع من وقفوا ضدها. هذا يقطع أنها كانت تعي جيدا ما تفعله، وأنها لم تكن أبدا الضحية المقهورة التي تواجه مجتمعا من الأشرار غلاظ القلب. المسألة أبعد ما تكون عن صورة الأبيض والأسود التي ترتسم في صحافتنا لدى الكلام عن حوادث من هذا النوع، مع اختلاف مواقع الأبيض والأسود بينها. والدهشة هنا هي ما تثير الدهشة، أعني هنا المندهشين من المجتمع الذي يلوم الفتاة. ردود أفعال مثل "الفجيعة" و"الصدمة" في أخلاق الشعب المصري لا تثير إلا السخرية في واقع الأمر. وتدفعنا للتساؤل عن المكان الذي يعيش فيه المندهشون. هل فوجئوا بمجتمعهم؟ ألم يعايشوا تحول المجتمع لحظة بلحظة إلى مجتمع أصولي ومعاد للمرأة، وساهم بعضهم في هذا التحول أيضا؟ هل تصوروا للحظة أن مصر هي "وسط البلد"؟ فعل تحطيم قيم المجتمع لبناء قيم جديدة، لابد أن يتم الرد عليه بقوة من قبل المجتمع. نعرف من أدبيات الثورة أن "الحرية" لا تمر دون دماء كثيرة، كثيرة ومتوقعة وعادية تماما.
***
بشكل ما، يعتقد المغتصب أو المتحرش أنه يلبي الاحتياج الجنسي "للمتبرجة". هو يتصور إنها "تتبرج" لأنها تريد أن يتم التحرش بها، وهو من يحقق لها أمنيتها. قال السائق للفتاة وهو يعتذر لها لم يكن يتصور أنها "ستزعل". نعم، لقد تصور أنها ستكون سعيدة بالتحرش. و لكن في الحقيقة فالمتبرجة (أو المتبرج، طالما لا يوجد وصف أفضل للشاب "الغندور") لم تكن لتصبح "سعيدة"، لقد كانت فقط تطمح في درجة معينة من إثارة الشخص المقابل لها، درجة لطيفة، ترضي نرجسيتها، مثلما يرضي نرجسية أي شاب أن يكون مثيرا بالنسبة للفتيات. وما الذي فعله المغتصب أو المتحرش في هذه الحالة؟ لقد بالغ كثيرا في تصوره عن رغباتها. هذا ما حدث فقط، إذا ما رددنا الأمر إلى أبعاده الطبيعية، وليس تلك الأبعاد الشيطانية التي يتصورها أي وصف لصراع بين "مجرم" بالكامل و"ضحية" بالكامل.
نعرف جميعا تعريف المجرم، ليس هو من يؤذي الناس، بحسب التعريف المدرسي، ولكن هو الذي يتمرد على القواعد الموضوعة سلفا، ويحاول وضع قواعد جديدة، أو فرض مفهوم مختلف عن الجسد والحياة، وهذا ما فعلته الفتاة، وبهذا المفهوم فهي مجرمة، من وجهة نظر المجتمع الذي يضع قواعد البراءة والإجرام.