Sunday, September 25, 2011

المعجزة الفلسطينية أو كيف تحررت فلسطين من النهر إلى البحر


قررت مجموعة فلسطينية تحدي حل الدولتين لشعبين، والتركيز على حل الدولة الفلسطينية الواحدة من البحر إلى النهر لكل مواطنيها بلا تمييز.

أخذت هذه المجموعة تدعو لفكرتها طول الوفت. لاقت الفكرة انتشارا متزايدا بين الفلسطينيين، في الداخل والضفة والقطاع، انتشرت صفحة على الفيسبوك بعنوان "كلنا الدولة الواحدة"، دخل الصفحة في اليوم الأول لإطلاقها أكثر من مليون ونصف مشترك، ثم سرعان ما تحولت الدولة الواحدة إلى عنوان للنضال الفلسطيني. نسي الجميع حل الدولتين. أصبح جزءاً من الماضي التعيس.

في إحدى اللقاءات طرح أبو مازن هذا الحل على بيبي نتنياهو. قال له: "يا أخي عندي حل معقول. بدل الاحتلال والجيش والقرف دا، خدوا الأرض، بدال ما هي ارض محتلة ومالهاش صاحب، خدوها، خلوها بتاعتكو".

نظر له بيبي نتنياهو

- اه والله. مش مصدقني. بتكلم جد والنعمة.

واصل بيبي نتنياهو النظر. فجأة: "عزيزي سيد ابو مازن. هل انت جاد؟"

"والله العظيم جاد. وحياة بنتي آية." لحظة صمت "بس بشرط واحد. خدوا الارض بالناس اللي عليها"

قطب بيبي حاجبيه، ثم قال: "عظيم. سنستعمل الفلسطينيين لكي يستخرجوا لنا الحديد من بحيرة طبريا".

ولكن إسرائيل دولة ديمقراطية، كما يعرف الجميع، ولا برضى القانون الاسرائيلي أبداً بأن يعمل شعب كامل في استخراج الحديد من بحيرة طبريا. أصبح لزاماً على الدولة الاسرائيلية أن تستوعب القادمين الفلسطينيين بوصفهم بشراً ذوي أصوات انتخابية، وكانت هذه هي خدعة أبو مازن. تعداد الفلسطينيين بالداخل، مضافا إليهم الفلسطينيين بالقطاع والضفة – الذين أخذهم بيبي لتوه – سيشكل أغلبية أمام تعداد اليهود بالداخل. هذا لا يعني شيئا إلا تحرير فلسطين من النهر إلى البحر. لم ينتبه أحد إلى هذا في حينها. سكر اليهود بنشوة الأراضي التي أصبحت – لأول مرة – من حقهم، شرعيا وقانونيا وبكل المستندات المطلوبة.

اتفق الطرفان أخيراً على وضع نهاية للصراع الدامي، ولكن عقبة صغيرة قد تبقت. ماذا سيكون اسم الدولة الجديدة، إسرائيل أم فلسطين أم اسم آخر؟ في هذا الوقت كان العالم قد أصبح شديد الإيمان بعدالة القضية الفلسطينية، وأينما تسير في أي مكان في العالم كنت تجد مظاهرة مؤيدة للفلسطينيين ومنددة بسلوكيات إسرائيل، في شوارع العالم العربي مثلما في القرى الأفريقية البعيدة، في الأرجنتين مثلما في نيبال. حتى في الأسكا. انتشرت صورة كبيرة لمجموعة من البطاريق تقف صفا واحدا وخلفها معلق ملصق مكتوب عليه "آي هيت إزرايل". مع كل هذا، مع اندلاع الثورات العربية في كل مكان حول إسرائيل، وشعور الإسرائيليين المتزايد بالخوف والخطر، لم تعد مجموعات الضغط اليهودية قادرة على الصمود أمام العالم كله. رضخت إسرائيل للطلب المتزايد بأن يكون اسم الدولة الجديدة هو "فلسطين".

ولكن اليهود ليسوا أغبياء. أعلن معهد "الخطر الديمغرافي الأكاديمي" الواقع في يافا عن الخطر الكامن في أن تصبح هناك دولة اسمها فلسطين تسكنها غالبية عربية وأن يختفي اسم "إسرائيل" للأبد. خرج من هناك البروفيسور نحميئيل ليفوفيتس بنتيجة مفادها إن العرب سيتحولون في غضون ستة أعوام إلى أغلبية كاسحة. كتب مقالة حزينة يندب فيها حلم إقامة دولة يهودية الذي انتهى أمام تعقيدات الواقع. هاجت جميع الصحف الدينية، وتصدرت أغلفتها عناوين "نهاية اليهودية"، "الشتات اليهودي يعود"، و"باي باي موسى". تلقفت السلطات الإسرائيلية هذه الحملة وبدأت تستعملها كورقة ضغط أمام المفاوض الفلسطيني:

- أنتم تريدون إطلاق اسم فلسطين على دولتنا. وسيحدث هذا، أوكي، ولكن هذا لن يحدث بدون شروط.

- وما الشروط عزيزي المفاوض الإسرائيلي؟

- يا عزيزي المفاوض الفلسطيني، الشروط ليست مستحيلة. نحن سنتوقف بهذه الحالة عن أن نكون إسرائيليين، وسنتوقف عن أن نكون صهيونيين، فليس هناك أقل من أن تتركونا يهوداً. سوف نضيف في الدستور الفلسطيني مادة تقول بأنه على أي حاكم يحكم هذه البلاد مستقبلا أن يحافظ على الطابع اليهودي لها. فلسطين هي دولة يهودية تقطنها غالبية عربية، وعلى الجميع الحفاظ على هذا.

- الطابع اليهودي؟ الطابع اليهودي؟ هممممم. وماله؟ نحن لسنا ضد اليهودية باي شكل. الإسلام يقول موسى نبي وعيسى نبي ومحمد نبي. هذا هو إسلامنا. في الواقع، فأنتم تتيحون لنا بهذا أن نكون مسلمين جيدين.

- شكرا عزيزي المفاوض الفلسطيني.

- عفواً عزيزي المفاوض الإسرائيلي.

وهكذا نشأت دولة فلسطين لأول مرة في التاريخ. دولة قوية، واسعة، ذات أغلبية عربية ولها طابع يهودي يتحتم الحفاظ عليه. بناء على هذا، لم يختلف علم فلسطين تقريباً عن علم إسرائيل: نجمة داود عملاقة، مع إضافة شمعدانات يهودية كأيقونات بصرية صغيرة مزروعة في خلفية العلم.

***

على مدار العقود التالية تحول اسم فلسطين إلى أيقونة، أيقونة شعب عاش تحت الاحتلال عقوداً طويلة واستطاع التخلص منه وبناء دولته بعد هزيمة الاحتلال. أيقونة دولة ديمقراطية، علمانية، تختار أغلبيتها العربية رؤساء حكوماتها بكل حرية، ولكنها مع هذا ترضى عن طيب خاطر بأن يكون طابع الدولة هو الطابع اليهودي. "لا شيء في فلسطين ضد الدين"، هكذا أعلنت الملصقات السياحية لفلسطين.

واليهود، ماذا عن اليهود الذين يبلغ تعدادهم الآن في فلسطين ثلاثة ملايين نسمة، بعد هجرة الكثيرين والكثيرين من الدولة الجديدة؟ إنهم يعيشون بسعادة داخل فلسطين، يعيشون داخل دولتهم التي لا تزال يهودية. ولكن شيئاً ما يحدث. كثير من اليهود، سواء حبا في الترقي الاجتماعي أو عن اقتناع، بدأوا يدخلون في الإسلام، وكثيرون آخرون بدأوا يهاجرون إلى دول أخرى أكثر تقدماً. بعد خمسة عقود لم تتبق إلا أسرة يهودية واحدة. أسرة البروفيسور نحميئيل ليفوفيتس، ذلك الذي كان قد حذر سابقاً من الخطر الديمغرافي العربي. لم يرض البروفيسور، ذو الميول المتدينة العظيمة، الهجرة من أرض الميعاد، وبالطبع لم يقبل التحول إلى الإسلام، وبالرغم من أنه كان هو من اقترح النص في الدستور الفلسطيني على أن يتم الحفاظ على الطابع اليهودي للدولة، إلا أنه شعر بعدم القدرة على التكيف. لقد ظل –ببساطة - يشعر بالحنين إلى أصدقائه. في الواقع فلقد كان بيت البروفيسور طول هذه الفترة مهجوراً، بعد أن غادره جيرانه وأقربائه وأصدقائه، ظل البيت وحيدا كورقة شجر مسكينة ترفرف بوهن في الهواء. داخله كان البروفيسور يدرس ويقرأ في أمور الشريعة اليهودية، يحافظ على السبت، يربى ابنتيه لتصبحا يهوديتين صالحتين، ولكن قلبه كان مكسوراً.

ذروة الحدث كان عندما رجع البروفيسور ذات سبت من المعبد. تعثر قرب بيته فتوسخت ثيابه بوحل الطريق. عندما وصل البيت نادى ابنتيه، سارة ودينا، وأخبرهما برغبته الحاسمة في المغادرة للأبد: "أنا حاولت. حاولت وحاولت وفشلت. الرب لم يكن راضياً عني. الرب وضع في طريقي طوبة لأتعثر بها، وعندما سقطت توسخت شراشيب ثيابي في الطين، كأن الرب كان يشير لي على الطريق الذي ينبغي علي أن أسلكه. أرض الميعاد ليست فلسطين".

- لكن يا بابا..

- ليس هناك لكن، مالكنش، أرض الميعاد هي الأرض التي يشعر فيها اليهود أنهم مبسوطون. وأنا لست مبسوطاً. الجمعة القادمة سنكون في نيودلهي عند أعمامكم. سنقضي السبت في معبد نيودلهي.

وافقت البنتان بعد بكاء كثير. في يوم الخميس التالي كان البروفيسور نحميئيل ليفوفيتس وابنتاه قد غادروا مطار القدس الدولي. وسجلوا بمغادرتهم رحيل آخر اليهود عن فلسطين. الآن فلسطين دولة تضم الجميع، مسلمين ومسيحيين ودروزاً، سنة وشيعة، إنجيليين وأرثوذكس وموارنة. دولة تضم الجميع ولكن بلا يهودي واحد. الجميع عرب في فلسطين الجديدة.

***

يمكن القول إن يوم رحيل البروفيسور من فلسطين كان يوماً مفجعاً بالنسبة للفلسطينيين. بحث الجميع عنه في كل مكان. تساءل جيرانه أين ذهب، أصيب مراهق في المدرسة بصدمة عصبية. المراهق كان عالقاً في قصة حب درامية مع ابنة البروفيسور. توقف عن الطعام والشراب ليومين كاملين، وامتنع عن دخول الامتحانات، وبعدها بشهرين مات، هكذا، انتحر. قبل انتحاره كان قد ترك قصاصة صغيرة مكتوب عليها: "البروفيسورهو الوحيد الذي أثبت أن هذه الأرض بإمكانها احتواء الجميع، الآن لم يعد بإمكانها احتواء الجميع"، بجانب قصة حبه اليائسة، فقد كان هذا هو الهم الأكبر للفلسطينيين. دولتنا لم تعد الدولة المثالية التي يتجاور فيها الجميع. في الجلسة التالية للمجلس التشريعي الفلسطيني وقف نائب برلماني وتساءل بسخرية كيف تكون هناك دولة ذات طابع يهودي ولا يقطنها يهودي واحد. صرخ بعنف: " يا إما تشيلولنا أم المادة دي من الدستور يا إما توفرولنا اليهود".

خرجت الصحف طبعاً لتندد بهذا النائب ذي الميول القومية المتطرفة. استشارت الصحف جميع علماء القانون في فلسطين وأفتوا كلهم فتوى شبه موحدة: "الدولة كيان اعتباري، الدولة غير أفراد الدولة. فرنسا مثلا علمانية، على الرغم من أن غالبية سكانها كاثوليك. تركيا علمانية وسكانها مسلمون. دولتنا هنا يهودية ومواطنها جميعهم عرب. فين المشكلة يعني"؟

ولأنه لم تكن هناك مشكلة، فقد وافق المجلس التشريعي بالإجماع على بقاء الطابع الرسمي لدولة فلسطين هو الطابع اليهودي. حدث هذا في محاولة للتكفير عن ذنب خروج البروفيسور من فلسطين. لقد حاول الفلسطينيون ترميم تلك الصدمة العظيمة في ضميرهم، كيف غادر رجل عجوز في التسعين من عمره، مع ابنتيه الوحيدتين، من بلادنا بدون أن يعلم أحد عنه شيئاً؟ بالإضافة إلى عقدة تقنية: لم يكن بالإمكان تغيير تلك المادة من الدستور التي تنص على أن فلسطين دولة ذات طابع يهودي صميم. المادة كانت مكتوبة بصراحة ، وتغييرها كان يعني طعن الأساس القانوني الذي قامت عليه دولة فلسطين.

***

الآن في فلسطين، التي تضم عشرة ملايين نسمة كلهم من العرب، يتم تدريس العبرية والييدشية في المدارس، العبرية هي لغة الدولة، تتم كتابة المعاملات الرسمية كلها بها، يتعلم كل الأطفال التوراة قبل دراستهم القرآن والأناجيل، توقد الشموع قبل كل سبت في المعابد الخاوية. تاريخ اليهود يصبح هو التاريخ الرسمي لدولة فلسطين، علاقات فلسطين بالدول العربية تسوء أكثر فأكثر، يتم تجنيد المزيد من الفلسطينيين للدخول في جيش الدفاع، ويتم إرسالهم في عمليات بلبنان والأردن ومصر وسوريا. الأفراد لم يكونوا مهمين في هذه الحالة. الدول، ككيانات اعتبارية، كدول لها طوابع مختلفة، يهودية وعربية، كانت تتحارب.

حاول بعض الفلسطينيين الخروج من هذا المأزق، مأزق الطابع اليهودي، ولكن هذا كان مستحيلاً، في مقابلهم كان هناك المؤمنون عن قناعة بالدستور كما هو، بوصفه دليلاً على النزاهة والفصل بين الدولة اليهودية والأفراد العرب. كل شهر كان يتم إرسال أسئلة للحاخام نحميئيل ليفوفيتس، كانت الدولة الفلسطينية تستفسر منه عن أمور متعلقة بالشريعة اليهودية، وبحدود الحرام والحلال في دولة محكومة بالطابع اليهودي. كان ليفوفيتس يرد بردود عاطفية غالباً، تدل على حنينه للدولة الوحيدة التي تقوم بتطبيق الشريعة اليهودية، على الرغم من عدم وجود يهودي واحد فيها.

قال الحاخام نحميئيل ليفوفيتس في إحدى رسائله: "أعرف معاناتكم أعزائي الفلسطينيين، أنتم تعرفون أنه لا يمكن لأي شخص الدخول في اليهودية. تعرفون أن هذا أمر صعب جداً، مستحيل بالأحرى، ولذا أقدر رغبتكم الشديدة في أن تصبحوا يهوداً، وعجزكم عن هذا في الوقت نفسه. أقدر قلوبكم الذهبية، ولكن هذا لا يكفي، وأنتم لا تستطيعون فعل ما يكفي. لذا أقول لكم، رجاء، عشان خاطري، والنبي، توقفوا عن هذا الهبل. الغوا المادة اياها من الدستور، فمهما فعلتم لن يبارككم الرب. إذن عيشوا مستريحين وريحوني". تم نشر الرد في الصحافة، ونشرت الصحيفة في افتتاحيتها رداً عليه يقول: "يبدو أن السيد ليفوفيتس يعتقد أننا نفعل هذا رغما عنا. القصة إننا شعب يقدر التزاماته، نحن، كشعب، لا نخرق معاهداتنا مهما حصل، نقول لك يا سيد ليفوفيتس: مهما فعلت، مهما أوحيت لنا، فنحن لن نتخلى عن الطابع اليهودي لبلدنا".

كان الفلسطينيون على صواب هذه المرة، عندما نتأمل القصة من بعيد، فبولاء أبناء فلسطين المطلق لدولتهم، وبتفضيلهم مصلحة الوطن على أية اعتبارات شخصية أو اجتماعية، وبالتزام أبناء الدولة المطلق بالدستور، أصبحت فلسطين هي أقوى دولة في الشرق الأوسط. وكانت هذه هي قصة المعجزة الفلسطينية

Saturday, September 17, 2011

Hash


في بيت الشاب الرابي تدور الكوباية. أشم منها نفساً

الشاب القلعة يتحدث. يحكي عن نضالات ألتراس القلعة البيضاء، أبذل جهداً لأتابع الحديث. أنا صامت، حريص على ألا ينكشف غيابي عن الوعي، ولكن التزام الصمت هو ما يجعلني أغيب عن الوعي أكثر. أعرف هذا وأنا صاح

ولكن الآن، كل فكرة تبدو خيطا، تتفرع منه خيوط أخرى. الشاب القلعة يشير إلى شعار وضعه مشجعو ناديه "صلاتي قبل مباراتي". أهتف فجأة للقلعة: "أحا"، فينقض الجميع عليه، وخاصة الدب الأبيض الطيب، يصرخون ويضحكون ويبدون كأنهم سيضربونه. أنا مبسوط بتعبير "أحا" الذي قلته، أثبت أني صاح، وأنهم كانوا مغيبين، بدليل أنني أول من انتبهت إلى الشعار العار. أستحق مكافأة إذن: أن أغيب عن الحوار الدائر لدقائق أخرى، أغيب ولا أنطق بشيء آخر. القلعة يتحدث، الدب الطيب يراجعه في كل تفصيلة، ومن واقع مراجعاته يراجعونه جميعاً. أفكر: الجميع منتبهون ما عدا أنا.

الشاب القلعة يحكي حكاية من حكايات ناديه ويطلب مني الانتباه لأن هذه الحكاية تتعلق بالعلاقات المصرية الإسرائيلية، يحكي قصة طويلة، عن شاب مات، وقبل أن يموت هتف: "آه آه زمالك"، شاب آخر، شاب يؤمن بأنه فوق الجميع، مثل ناديه المفضل، يبدو مبضوناً بسبب تقديس الشاب القلعة للنادي المعادي. الشاب فوق الجميع يلفت نظرنا للكيتشية في الموضوع. هو حساس جداً للحكايات المروية عن النادي المعادي. أفكر في أن صراعاً وشيكا سيقوم بين الاثنين. وأن الاثنين، الشاب القلعة والشاب فوق الجميع، مثل إلهين، إذا تعاركا في السماء فإن الأرض ستتزلزل، وسوف يباد معها البشر الزائلون، أي نحن، من لا يهتمون اهتماما حقيقيا بالكرة. الفكرة تضحكني. وقصة الشاب القلعة تتواصل عن الرفيق الذي مات بالسرطان وكان يتيماً، والآخرون، الذين كانوا قد التقطوا طرف الخيط من الشاب فوق الجميع أخذوا يسخرون من حمولة الكيتش الزائدة. يلتفتون لهذا ويهتفون ضد الشاب القلعة، فيضحك وهو يخبرهم إنهم جزم.

فجأة أنتبه: "فين العلاقات المصرية الإسرائيلية في الموضوع؟"

يستدرك ويحكي عن دخلة قام مشجعو ناديه بتصميمها في وقت كانت إسرائيل تقصف غزة فيه – تقريباً - وحوت عبارة "وَن نيشَن فور نيو هولوكست"، يصرخ الحاضرون من فاشية الشعار، وأنا يصعب عليا الشاب القلعة. أفكر أن نقطته أبداً ليست هي إن الكلام الذي يحكيه صحيح، وإنما نقطته هي أن يحكي لنا كم أن مشجعي ناديه يؤمنون بالنادي. "قوة الإيمان" هي ما يصورها لنا، وليس "حقيقة الإيمان". يختتم حديثه بأن الفريق المعادي هو فريق فاشي، فترد شابة الحشيش: "أحا! وانتو مش فاشيين؟" لا أفهم تعليقها: "من أنتم، ومن هم، وما علاقة الفاشية بالموضوع؟" أنتبه إلى أنها منتبهة، وكالعادة، ألوم نفسي لكوني استسلمت لحالة الغياب بينما الآخرون صاحون. كنت قد نسيت تماما فاشية نادي القلعة. بمناسبة القلعة، يهتف شاب الإسكندرية إن نادي الشاب القلعة لا يبدو كالقلعة. أفكر في أن شاب الإسكندرية يبيض على شاب القلعة، ويصعب عليا شاب القلعة أكثر. على العموم، هو يستاهل، لا أحد يتحدث غيره.

الدب الطيب يتحدث: يحكي عن بولاق وعن شخص من بولاق اسمه علي يتكلم عن نفسه بصيغة الغائب، وعن الحاجة أمه وعادل إمام الذي شتم بولاق. شاب الإسكندرية يعلق على حديث علي عن نفسه بصيغة الغائب: "طبعاً! بيأسس لأسطورته"، ابحث في ذاكرتي عن الأسطورة في الموضوع، بعد قليل أفهم: "عندما تتحدث عن نفسك بصيغة الغائب فهذا يجعل ذاتك منفصلة عنك، ذاتك تتجاوز أناك، ذاتك فوق التاريخ، الله كان يتحدث عن "الله" في القرآن".

إساءات الفهم: أثناء جلستنا عند الرابي، يقول واحد شيئا ما عن الآخر، يهتف بأن الآخر راح خلاص. وينظر للشاب القلعة. أنا لا أفهم، هل يقصد أن الآخر راحت منه أم الشاب القلعة هو الذي راحت منه، أفكر في معنى راحت منه، هل يعني بها حالة الغياب عن الوعي، أم المقصود هو أن الشاب القلعة يبالغ في حكاياته وتروح منه. أستبعد الاحتمال الأول وأفكر في أن الثاني هو الصحيح، القلعة راحت منه، أشارك في الحوار، للمرة الأولى من زمان، أهتف بأن الشاب القلعة يبالغ فعلا، ولكن مش مهم، الكلام ليس بفلوس. ينظرون جميعا إليّ فأنتبه: الاحتمال الأول هو الصحيح. "راحت منه" كانت تعني أن هناك من بيننا من غاب عن الوعي. وأنا أثبت بجملتي هذه أنها قد راحت مني أنا أيضاً. أشعر بخزي مؤقت.

في رحلتي إلى المترو أسير كثيرا، أسأل العابرين عن الطريق وألتزم بما يشرحونه. ولكن يبدو لي أنني أسير في خطوط مستقيمة بلا نهاية. بنتان تصعدان سلم المترو فأصعد وراءهما، محجبتان. أفكر في أنهما يعتقدان أنني أتابعهما، وأسخر منهما. أتخيل أنه إذا شخطت فيّ إحداهما فسوف أحدثها بلهجتي الرصينة وأقول لها إنني صحفي في أخبار اليوم وإنه مش معقول أن أكون أتابعهما. فجأة أنتبه أنني أسير وراءهما فعلا، وأن السلم الذي صعدته لم يكن سلم المترو أصلا. أعود من حيث أتيت وأفكر أن الطريق طويل، أتذكر قصة ليوسف السباعي يتحدث فيها عن سلم يصعده وهو سكران ويبدو له السلم بلا نهاية، هكذا هو الطريق الآن، بلا نهاية ومليء بالاستدراكات. الطريق متاهة.

في المترو أفكر في نفسي، هل يلاحظ أحد عليّ شيئاً ما؟ بنتان صغيرتان تظلان تنظران إليّ. أخمن أن هذا بسبب البيريه الذي ألبسه على رأسي ويجعلني أبدو غريبا، فأقرر مفاجأتهما أكثر، أضع السماعة في الموبايل، وأمرر سلك السماعة من تحت التي شيرت. تظل البنتان تنظران إليّ في استغراب. وأعاود السؤال: هل يلاحظن عليّ شيئاً ما؟ أتذكر ثلاثة فتيات ركبن المترو في نفس العربة التي كنت أركبها منذ عامين. كن سكرانات، أو هكذا بدون وقتها. يضحكن بصوت عال وعلى ألسنتهن ألفاظ قبيحة. بعد انصرافهن بصق شاب في الاتجاه الذي وقفن فيه، وأثناء وقوفهن كان آخر قد هتف: "كل واحدة تاخد أجرتها وتروح". ربما فكر وقتها أنهن شراميط. وربما فكر الذي بصق أنهن يصمنه، هو شخصياً، بجوهر حديثهن السكران في مكان محافظ مثل المترو. الآن أفكر، وأنا واع أني أقترب بتفكيري هذا من الحداثة الفرنسية، بودلير على وجه الخصوص، في أن العاهرة هي النقطة السوداء في مجتمعنا، وأنها لا تأبه بمن يصمونها، وأنها تستطيع الرد بقوة على أي من يعتبر وجودهاً فعلاً مشيناً. هي تذكرنا أن جوهر وجودنا موصوم. أن وجودنا مليء بالثقوب السوداء، أنها نقطة سوداء، وأن هذا لا يختلف عن جوهر حياتنا المحافظة، حياة بيضاء، تبدو في الظاهر بيضاء، لكنها مليئة بالثقوب السوداء. هذه هي المهمة التي تنفذها العاهرة (وقتها فكرت باستخدام هذا اللفظ: العاهرة). تلخيصاً لهذه الفكرة فكرت في كتابة ستاتس: "أنت لا تصم العاهرة. هي التي تصمك".

بعدها بنصف ساعة، وأنا أشرب البيرة، أحاول حكي هذه الفكرة لرفيقي الشرب الجديدين، شاب العشوائيات وشاب الإنتلجنسيا. أقول لهما إن حياتنا التي تبدو ثابتة هي في حقيقتها معلقة فوق هاوية، والعاهرة هي التي تذكرنا بهذا، ربما فكرت أن العاهرة هي الهاوية بحد ذاتها. شاب العشوائيات يسألني عن علاقة الهوية بالموضوع. فأكرر كلمتي: "هاوية"، وأفرح في سري، هو الآخر مغيب، برغم أنه لم يحشش معنا، أستبعد أن يكون هذا قد حدث له من زجاجتين بيرة. أتذكر أن هذا الرفيق، شاب العشوائيات، لا يأتينا إلا وهو ضارب كيميا، وأفرح، انا وهو على نفس المستوى الإنساني. الرفيق الآخر، شاب الإنتلجنسيا، هو الذي لا يبدو على نفس المستوى معنا.

في هذه الجلسة أخترع قصصاً، قصة عن كتاب "حياة محمد" لمحمد حسين هيكل، والذي حاول مترجم إيطالي منصف ترجمته إلى الإيطالية لتعريف الإيطاليين بعظمة الإسلام، ولكن هذا أثار عاصفة سياسية وتم عزل المترجم، الذي كان عضوا برلمانيا، من البرلمان. أقول إنه في إيطاليا فإن موضوع الترجمة عن العربية موضوع شائك، مثل الترجمة عن العبرية في مصر، وإن اليسار الإيطالي يقول "اعرف عدوك" – يعني العرب – بينما يقول اليمين الإيطالي "لا تعرف عدوك"، وأن هذا هو سقف الجدال، ليس أكثر. ثم أتحدث عن ترجمة كتاب آخر إلى الألمانية، كتاب مهم، لا أذكره الآن، وأخترع قصة حول ترجمته. أتحدث بلهجة واثقة من نفسها، ويمتعني التصديق الذي أراه في عين شاب العشوائيات، والسخرية التي أراها في عين شاب الإنتلجنسيا. شاب الإنتلجنسيا صديق قديم ويعرف ألعابي.

اختراع القصص يريحني في هذه الحالة، يتيح لعقلي أن يسرح كما يحب. أفكر في أن مفعول الحشيش يمكن تأجيله. إذا انتبهت للحديث الدائر، وظللت منتبها، فأنت تعطل عمل الحشيش، ولكنك ما أن تقرر الانفراد بنفسك حتى يبدأ في العمل بقوة. وأمد النظرية على استقامتها: يمكنك أن تشرب الحشيش الآن، وأن تستمتع بمفعوله غدا، إذا قررت أن تظل طول اليوم صاحياً. هكذا يبدو لي أنني أسرع من أسقط في الغياب، بسبب طبيعتي الصموتة، وعدم ميلي في الغالب للمشاركة في الحوارات من حولي.

شاب العشوائيات يقول لي أني أظل ماشيا كويس، أحشش طول الوقت، وذلك إلى أن ألف بنفسي السيجارة، حينها تضيع حياتي. لا أفهم بالظبط. أسأله: "يعني بافضل صاحي طول ما انا باحشش ولما الف سيجارة نفسي باغيب؟"، فيشرح لي شاب الإنتلجنسيا إن المقصود غير هذا، المقصود إني حياتي بتضيع بعد ما ابتدي ألف بنفسي. أهتف: "تقصد الدمار النفسي يعني"، فيضحك الشاب العذراء ويقول لي: "آه، الدمار النفسي"، أبتسم متباهيا بقدرتي على خلق الإكليشيه، وبقدرتي على فهم العالم من خلال الإكليشيهات، هذا طريف، هذا يضحك من حولي.

ينظر شاب العشوائيات في عيني. يقول لي: "على فكرة، انت القارئ الشعبي، انت والجماعة دي، ماهر ووائل وناجي وربيع". أنظر له نظرة قوية. أطلب منه بلهجة صادقة ألا يخبر أحدا عن هذا الموضوع، لإني عملي في أخبار الأدب سوف يتضرر كثيرا إذا عرف المحيطون بي أننا، كمجموعة يعمل بعضها في أخبار الأدب، نحن القارئ الشعبي. أقول له إننا قررنا الإفصاح عن هذا ولكن بعد أن نترك أخبار الأدب. ينفجع شاب العشوائيات: "انت ايه نظرتك عني؟ انت فاكرني باسيح للناس وبقعد اقول دا عمل ودا معملش؟". أطمئن إلى أن الموضوع سيظل بيني وبينه وأعاود الشرب. يظل شاب الإنتلجنسيا ينظر إلى اشتغالاتي نظرة ساخرة.

Monday, September 12, 2011

بحثا عن وجهي



1

لم أر نفسي أبدا إلا فوق أسطح، سطح المرآة، سطح الصورة الفوتوغرافية، اللوحة، سطح التليفزيون. أي أنني لم أر نفسي ثلاثي الأبعاد أبدا. لم أستطع أبدا تخيل شكلي، حتى مع اختراع المرآة، كانت ملامحي هي لغز حياتي الأعظم. من أشبه، كيف أكون، ما الانطباع الذي أخلقه عند محدثي، كلها أسئلة لم أستطع حلها أبدا. ربما لانني لم أستطع ابدا مشاهدة نفسي مجسدا. أعتقد أنني أتشابه في هذا مع سائر أفراد الجنس البشري، حتى هذه اللحظة.

تقسيم الوجوه إلى أشكال هندسية يفشل في الغالب، بسبب ثلاثية الأبعاد هذه بالتحديد، لا نستطيع تمييز الوجه المثلث عن المستدير إلا في حالات متطرفة، في اغلب الأحوال يكون الوجه وجها فحسب، لا مستطيلا أو مستديرا أو مثلثا، ننطق نحن بهذه الأشكال تجاوزا، ولا نعنيها، لا ندرك هندسة الوجه، الوجه في أحيان كثيرة هو خبرة وليس تعلما، مثل الرائحة والمذاق. برغم هذا، كانت عبارة قالها أخي يوما، بأنه يفضل الوجوه المستطيلة، وعنى بها وجهه، على المستديرة، وعني بها وجهي، هي هوسي طيلة السنوات التالية كلها.

فورما نطق أخي بجملته، أو بعدها بما يكفي لتختمر الجملة في ذهني، بدأت أحاول البحث عن وجهي المستطيل، عن ملامحه المتوارية وراء شعر كثيف ومجعد وقبيح. بدأت أحلق شعري بشكل مازوخي. أسبوعيا كنت أخرج من عند الحلاق متحررا، أسير فاردا قامتي أمام الجميع، ناظرا في أعينهم بجسارة. يوم زيارتي للحلاق هو اليوم الذي أتجرأ فيه على زيارة المصور الفوتوغرافي لالتقاط صور لي. هكذا يضخ الشعر الأقصر في طاقة جديدة، لا تلبث أن تنفد بعد أسبوع، حينما تبدأ ملامحي في الترهل مع ازدياد طول شعري.






وجهي المستدير

وجهي المستطيل


2

ظننت يوما أن الصور الفوتوغرافية تكفي لأعرف على أي شكل، المستطيل أم المستدير، هو وجهي. عددت تلك بديهيتي الخاصة، شعري الطويل يجعل وجهي مستديرا، أي كريها، والقصير يجعله مستطيلا، أي جيدا، هكذا فهمت الأمور. في يوم شبهني صديق بشخص آخر. قال لي أنه يشبهني في استدارة وجهي. كان شعري قصيرا وقتها بلا جدال. وقعت علي العبارة كسكين مسممة. ولأول مرة خرج فيها سؤالي على هيئة أصوات، بعد أن كان محبوسا كأفكار في داخلي طيلة الأشهر الماضية. سألته إن كان وجهي مستديرا أم مستطيلا. قال لي بعد تفكير أنه مستدير الاستطالة أو مستطيل الاستدارة. قالها بسخرية، كان يقصد إلقاء نكتة، و لكن وراء سخريته كانت تقف إمكانية رؤيته لوجهي مجسدا. مستطيل الاستدارة أو مستدير الاستطالة، الثلاثة أبعاد تحضر هنا بجبروتها لتمارس علي، أنا ذو البعدين في عين نفسي، نوعا من القهر، لا ينبع بالأساس من تحطم أسطورتي عن وجهي بأنه مستطيل بلا جدال، و لكن تنبع أيضا من تلك الإمكانية التي حرمت أنا منها بقرار وجودي، إمكانية أن أعرف كيف أبدو.

سعيا وراء استطالة وجهي، لم يكن جز شعري هو التكنيك الوحيد. في يوم من الايام. بالتحديد في الاجازة التي سبقت دخولي الجامعة. اعتقدت أن استدارة وجهي ربما تكون نابعة من زيادة وزني. من هنا بدأت حملة محمومة لإنقاص وزني. لشهر كامل اكتفيت بوجبة واحدة يوميا لا تعتمد إلا على الخضروات. في عشرة أيام انخفض وزني تماما. لم يكن هذا رائعا، ربما، على العكس، بدا مظهري مرعبا. قال كل من رآني وقتها أنني أبدو له كشبح، هكذا قالت أمي. أشار علي زميل المدرسة بسخرية وقال: "يحي العظام وهي رميم". أما أختي وصديقة أمي فقد أفلتت منهما الملحوظة المعجزة: أصبح وجهي مستطيلا بعد أن كان مستديرا. المدهش أنهما لم تباركا لي. لم تعتبرا هذا إنجازا يستحق التهنئة. قالتاه بإشفاق وبمصمصة للشفاه. اقترحت أختي عليّ تعاطي بعض الفيتامينات أما صديقة أمي فقالت أنها لو رأتي في الشارع لما عرفتني.

كل شيء كان يقطع بأنني أتدهور، بأنني أسير في منحدر سريع في تلك الأيام، المظهر الشبحي، الإرهاق الكامل، التوتر العصبي، الاشتهاء الوحشي لروائح الطعام، برغم هذا، كانت ملاحظات أقربائي مرضية جدا بالنسبة لي. الريجيم هو أكثر وسائل التعذيب هيمنة. به يمكن لآلهة العصر الحديث السيطرة على مخلوقاتها. في ممارستنا الريجيم نتحول إلى آلات. لا نفكر. ننسى مع الوقت الهدف الأصلي: "جسد أفضل أو وظائف عضوية تعمل بكفاءة أكثر." يتحول الجوع إلى طقس غير قابل للمراجعة كالصيام، لا نعرف ما وراءه. وإذا عرفنا قليلا، نصطدم بحائط الصد الثاني: يصبح الجسد الأكثر نحافة هو الطقس، لا قبحه ولا جماله وإنما نحافته. يقدم لنا الجسد النحيف أمانا ما، ضمانا بأن السمنة لا تزال بعيدة خطوات كثيرة. تراجع قيمة جمال الجسد، أو إهمالها نسبيا، لصالح أمانه، لصالح ابتعاده عن موطن شبهات السمنة، هو سمة المجتمعات الحديثة، هو سمة برجوازيتنا. لتقريب المسألة، كان هوسي بوجهي في تلك الفترة يشابه هوس النساء بأجسادهن، شيء بين الوهم والصحو، بين العقل والجنون. كان هوسا.

كان التعذيب الذي مررت به في تلك الفترة بدنيا، و لكنه كان نفسيا ايضا. شعرت بأن وجهي يتراوح، يوميا وعلى حسب ساعات مختلفة من النهار، بين الاستدارة والاستطالة، وهذا يشعرني بشيء ما لا أفهمه، بانعدام المنطق مثلا، أو بعبثية الموقف، أو بأنني مطالب بالمزيد من الصبر للوصول إلى وجهي المثالي، وجهي الذي سآتي به من عند الله، الله الذي كان في ذاك الوقت قد بدأ يلعب معي ألعابه، ألعابه التي انتهيت منها وقد أضحيت حطاما نفسيا هائلا. حلمت يوما بأني في السنة النهائية وأنني اجتاز الاختبار الأخير في هذه السنة الدراسية. عندما صحوت، وكان الحلم قد أثر في كثيرا، أحسست بأن ثمة رسالة عليها أن تصل لي من خلاله. ثم استطعت أن أصل إلى النتيجة التي بدت بديهية لي في ذلك الوقت. الله يختبرني، يختبر قدرتي على احتمال وجهي قبل الوصول إلى الوجه المثالي، المستطيل. وهذا هو آخر اختبار. سأجتازه قبل أن يمنحني الله الوجه الذي أختار.

3

الابتلاء هو أهم جزء في الدين. بالابتلاء يضمن الله ولاء مخلوقاته. اتباعهم له حتى وهو يفقدون كل شيء، ما عدا، أو أن هذا هو محك الابتلاء، إيمانهم به وثقتهم في أن بعد الصبر سيأتي فرج. الفرجة البسيطة التي يتركها الله لمخلوقاته، الجزء المقطوع من الورقة، من اللوح المحفوظ، المدعو بالمستقبل، والذي، لكونه جزءا مقطوعا، مغيبا، لا نعرف أي شيء عن حجمه، محتواه، شكله، هو ما يسير أتباعه في طريقه حتى النهاية، لاعتقادهم أن الفرجة على وشك الانتهاء، أن الورقة، صفحة الابتلاء في اللوح المحفوظ، ما كانت تنقصها إلا قصاصة وهذه القصاصة على وشك الالتئام في الصفحة قريبا. في تلك الأيام البعيدة، اعتقدت كثيرا ان ابتلاء الله الأخير لي هو اليوم، هو الساعة، بعده سأصل إلى وجهي النهائي. أحيانا وعندما أنظر في المرآة، أجد وجهي مستطيلا كما أردته، كنت أعتقد أنني تجاوزت الابتلاء الأخير بنجاح فعلا لأجده يتحول بعد يومين إلى آخر مستدير. بنت توهماتي في تلك الفترة، ألعاب الخداع البصري التي مارستها المرآة عليّ، ولا تزال تمارسها حتى الآن بشكل أكثر لطفا بكثير، تكويني النفسي كشخص محطم. انهرت مرة أمام أمي، حكيت وحكيت وحكيت، بكيت وصرخت، سألتها لماذا يفعل الله بي هذا، ألأني أصلي وأصوم وأعبده؟ في قلب الحكي كنت أريد لسؤال ما أن يفلت. حكيت لها عن التقلبات التي يمر بها وجهي على حسب الإشارات التي أتلقاها من عند الله. سألتها هل لاحظت تقلب وجهي بين حالتيه؟ أومأت لي أنها لم تلاحظه. كنت أريد أن أرى القصة بعين غيري. وكان النتيجة لصالحي. كان أسهل علي تقبل أنني أتوهم، من تقبل أن الله يمارس لعبه السادي معي، يلقي إلي بإشارات ويخرقها بنزق. المتوهم لا يضيره كثيرا أن يكون متوهما. ربما العكس، يجرحه كثيرا أن يرى الآخرون ما يراه هو. ينشأ اعتزازه بنفسه من كون الآخرين يصمونه بأنه يتوهم، بينما هو من يعلم الحقيقة كاملة، هو يرى الاثنين، مايرونه وما يراه هو.

4

يعتقد الكثيرون أن الكون مصاغ وفق معادلات قدرية لا يفهمها العامة. وهي، بصفتها معادلات معقدة وغير مفهومة، لا دخل لله بها، لا يتدخل هو ليوصل إلينا هذه المعادلات، لكي نعلم شيئا عن الغيب، عن القصاصة المقطوعة من صفحة اللوح المحفوظ. وإنما هي شيء مزروع في فطرة الكون، مثل الخطوط في فنجان القهوة، التي لن تغيب دلالاتها لو لم نلحظها. من هنا تنشأ الحاجة إلى قارئ خاص للعلامات، مفسر للأحلام أو قارئة طالع. تنشأ الوظيفة في المجتمعات التقليدية، وتصبح إلهية بمعنى ما: الله يرغمك على اللجوء إلى مفسر الأحلام ليشرح لك ما عجرت أنت عن فهمه. لو أراد الله أن تفهم حلمه لمنحك حلما سهلا، ولكنه يريد لهذه الوظيفة أن تتطور. الله يدافع عن وظائف المجتمعات التقليدية. يدافع عن تقسيم العمل. تختلف هذه الإشارات بالطبع عن أحلام الأنبياء التي يكون فيها النداء صريحا وقابلية النبي لأن يكون نبيا تكون دوما حاضرة، ليس هذا فقط، لن يكون النبي نبيا لو لم يستبصر أكثر، لو لم يكن ذلك النوع من قارئ الطالع أو مفسر الأحلام. هو الوظيفتان معا. لم ألجأ وقتها، وأنا أتتبع هذه الإشارات الإلهية بجنون، إلى أحد غير نفسي. ربما، وبشكل شبه أسطوري، داخلني شعور بأنني ذلك النبي الذي يفسر الوحي بنفسه بدون معونة من أحد غيره، مثلما قبلها، داخلني شعور أنني سأصبح متصوفا كبيرا، سأرى الله بنفسي وسأروح في غيبوبة رؤية كأقطاب التصوف العظام. تتبعت هذه الإشارات كثيرا، شكلت لي وقتها هوسا. كنت شبيها بنبي من العهد القديم يسأل: متى يا رب. في الأغلب الأعم، وهذا شيء لم أكتشفه إلا الآن، لم أكن أريد الوصول إلى وجهي فحسب ساعتها، كنت أريد وبالأساس كتابة قصة ذلك الوصول، كنت أريد الحصول على معجزة، وكنت أريد أن أحكيها، ولم أكن قادرا على حكايتها إلا بعد أن تتم، وهو ما لم يتحقق حتى الآن.

5

في عز صلاتي المحمومة لإنجاز المهمة. في عز ما آمنت ساعتها أنه الصبر الذي يعجز الصبر عن صبره، داخلتني هواجس ما. كان رهاني الأساسي على الإيمان، هو الذي سيوصلني إلى ملامحي المشتهاة. فجأة، وفي اعترافي أمام أمي أذكر واقعة، أذكرها بين البكاء والصوت المبحوح: أنا في القطار. في طريقي إلى الإسكندرية. جاري في المقعد مسيحي. يقرأ كتابا عن معجزات البابا كيرلس الخامس مع جمال عبد الناصر. أصل إلى الإسكندرية. أصلي المغرب في مسجد بجوار بيتنا. أثناء ركوعي تداهمني هذه الفكرة، وماذا لو كانت المسيحية هي الدين الصحيح، وماذا لو كان الإنجيل هو كتاب الله، أما إله المسلمين فقد انتحل القرآن. قلت لأمي أنني أبعدت هذه الأفكار عن نفسي بسرعة وعنف. ولكنني ظللت أسأل نفسي: لماذا يفعل الله بي هذا؟ قالت لي أمي أنني أحتاج لإراحة أعصابي قليلا. أضافت نصيحتها أن أبعد هذه الأفكار عن ذهني فورما ترد على بالي.

"فيما بعد، بعد أربع سنوات، عندما تبدأ أمي في تخيل أن الرسول يحادثها، وأن الله يبعث لها برسائل خاصة، سأقول لها أنني ذات يوم توهمت أوهاما كأوهامها، رأيت أشياء غير موجودة، بل وشككت شكوكا كشكوكها. فاكرة؟ تومئ لي بتواطئ صامت. تقول أنها فاكرة."

6

لم يكن هذا هو كل شيء، بدأ الموضوع يأخذ شكلا ممنهجا، دخلت في حوارات طويلة، جدالات وألعاب عقلية مع نفسي، لإقناع نفسي بأن الإسلام هو الدين الصحيح. كنت أرغب في هذا الاقتناع بجنون، أن تهدأ بعض الشيء شكوكي الملتهبة، والشكوك كانت تدخل من نقاط كثيرة: ماذا لو كانت المسيحية أو اليهودية هي دين الحق؟ ماذا لم يكن أي منهما وكان إله آخر آثر أن يظل مختئبا ولا يكشف عن نفسه؟ ماذا لو كان الله جزءا من منظومة أكبر من الآلهة، تنتهي بإله أكبر؟ ليلا ونهارا، في البيت والشارع والمسجد، لعبت هذا البينج بونج الذهني مع نفسي. ونصيحة أمي لي بأن أبعد نفسي عن هذه الأفكار بدأت أنفذها بحرفيا بعد قليل. أجهد نفسي حتى أتوقف عن التفكير، الذي كان ذا حركة محمومة لا توقفها فرملة واعية. الفرملة كانت تأخذ شكلا عقليا، ولكن بعد ذلك، بعدما أصبحت الفرملة العقلية غير قادرة على مواجهة وحدها موجات التفكير، بدأت أصدر أصواتا. بدأت أحرك رأسي بقوة كي أجبر نفسي ألا أقتحم هذه المنطقة. الحركة لم يلاحظها أحد وقتها، باستثناء أمي ذات مرة. كانت أصواتا حقيقية إذن ولم تكن من عمل خيالي. أدلت بملاحظتها تلك عقب وفاة خالي. وقتها كنا معا دوما، هي تحتاجني للشفاء من وحدتها بعد رحيل خالي وأنا أحتاجها للشفاء من ازدحام نفسي بأفكاري. كانت رغبتي في الانتهاء إلى الإيمان هي ما حركتني وقتها. تخيلت لنفسي مصيرا أسود تشكل كلمة "ملحد" عنوانه المرعب. ضربت مرة نفسي بعنف، أخذت أضرب نفسي عقابا على المدى الذي وصلت إليه أفكاري عن الدين. كان هذا هو الشكل الأكثر قسوة من الفرملة الذي انتهجته.

7

في أشهر قليلة تم إغلاق ملفات كثيرة كانت مفتوحة. دخلت الكلية. بدأ عقلي ينشغل بأموره الخاصة. بدأت تدريجيا، وصولا إلى عامي الرابع بالكلية، أتحول إلى نوع هادئ ولطيف من العلمانية، ثم اليسار، ولكن مع ملف آخر ظل مفتوحا، هو الملف الأساسي: وجهي. لازالت المرآة تلاعبني ألعابها الماكرة. لازلت لا أعرف شكلا لوجهي. ولازال هذا الموضوع يحيل على الدوام في عقلي إلى الله، الله الذي هو المسئول الرئيسي عن هذه القضية. قررت وقتها ببساطة ألا أرى نفسي. هكذا، منذ حوالي العام 97 وحتى لحظة كتابة هذه السطور، 2007، عشر سنوات كاملة، لا تزال المرايا تمثل لي رعبا دائما. لا ألجأ إليها إلا أثناء حلاقة ذقني أو شعري. أشيح في الشارع عن أي مرآة أو سطح أملس يمكنني معه رؤية ظل لوجهي، بشكل عصابي طبعا. شيئا فشيئا، ولأنه لا يمكن الحياة بدون مرايا، فلقد انقسمت المرايا إلى مرايا أليفة، هي ما اعتدت عليها، تعودت على وجهي خلالها، وهي ثلاثة مرايا على الأكثر، في حمام البيت والعمل ومرآة صغيرة حملتها معي أثناء فترة الجيش، ومرايا مفاجئة، تقتحمني في أي مكان فأدير وجهي عنها بسرعة، لا أثق بها. بجانب هذا، لفترات طويلة خشيت تحسس وجهي بقوة، تصورت أنه بتحسسي وجهي يمكنني الوصول إلى تصور ما عن شكله، أي إلى إيقاظ كل الأشباح النائمة. عزلت نفسي عن نفسي تماما وقتها.

8

قريبا، كتبت سطرين من رواية لي عن هذا الخوف، الخوف العصابي من رؤية الوجه، الذي كان خوفي أنا، ولكن، في عز ما كان هو خوفي، كانت تكمن رغبتي الجارفة أن أراني، أن أراني كاملا، بأبعادي الثلاثة، أجلس معي وأعرف كيف أبدو. حينها فقط، بالتأكيد، ستتوقف المرآة عن مخاتلتي بالأشكال الكثيرة التي لا تزال تقدمها لوجهي حتى اليوم.