Saturday, September 17, 2011

Hash


في بيت الشاب الرابي تدور الكوباية. أشم منها نفساً

الشاب القلعة يتحدث. يحكي عن نضالات ألتراس القلعة البيضاء، أبذل جهداً لأتابع الحديث. أنا صامت، حريص على ألا ينكشف غيابي عن الوعي، ولكن التزام الصمت هو ما يجعلني أغيب عن الوعي أكثر. أعرف هذا وأنا صاح

ولكن الآن، كل فكرة تبدو خيطا، تتفرع منه خيوط أخرى. الشاب القلعة يشير إلى شعار وضعه مشجعو ناديه "صلاتي قبل مباراتي". أهتف فجأة للقلعة: "أحا"، فينقض الجميع عليه، وخاصة الدب الأبيض الطيب، يصرخون ويضحكون ويبدون كأنهم سيضربونه. أنا مبسوط بتعبير "أحا" الذي قلته، أثبت أني صاح، وأنهم كانوا مغيبين، بدليل أنني أول من انتبهت إلى الشعار العار. أستحق مكافأة إذن: أن أغيب عن الحوار الدائر لدقائق أخرى، أغيب ولا أنطق بشيء آخر. القلعة يتحدث، الدب الطيب يراجعه في كل تفصيلة، ومن واقع مراجعاته يراجعونه جميعاً. أفكر: الجميع منتبهون ما عدا أنا.

الشاب القلعة يحكي حكاية من حكايات ناديه ويطلب مني الانتباه لأن هذه الحكاية تتعلق بالعلاقات المصرية الإسرائيلية، يحكي قصة طويلة، عن شاب مات، وقبل أن يموت هتف: "آه آه زمالك"، شاب آخر، شاب يؤمن بأنه فوق الجميع، مثل ناديه المفضل، يبدو مبضوناً بسبب تقديس الشاب القلعة للنادي المعادي. الشاب فوق الجميع يلفت نظرنا للكيتشية في الموضوع. هو حساس جداً للحكايات المروية عن النادي المعادي. أفكر في أن صراعاً وشيكا سيقوم بين الاثنين. وأن الاثنين، الشاب القلعة والشاب فوق الجميع، مثل إلهين، إذا تعاركا في السماء فإن الأرض ستتزلزل، وسوف يباد معها البشر الزائلون، أي نحن، من لا يهتمون اهتماما حقيقيا بالكرة. الفكرة تضحكني. وقصة الشاب القلعة تتواصل عن الرفيق الذي مات بالسرطان وكان يتيماً، والآخرون، الذين كانوا قد التقطوا طرف الخيط من الشاب فوق الجميع أخذوا يسخرون من حمولة الكيتش الزائدة. يلتفتون لهذا ويهتفون ضد الشاب القلعة، فيضحك وهو يخبرهم إنهم جزم.

فجأة أنتبه: "فين العلاقات المصرية الإسرائيلية في الموضوع؟"

يستدرك ويحكي عن دخلة قام مشجعو ناديه بتصميمها في وقت كانت إسرائيل تقصف غزة فيه – تقريباً - وحوت عبارة "وَن نيشَن فور نيو هولوكست"، يصرخ الحاضرون من فاشية الشعار، وأنا يصعب عليا الشاب القلعة. أفكر أن نقطته أبداً ليست هي إن الكلام الذي يحكيه صحيح، وإنما نقطته هي أن يحكي لنا كم أن مشجعي ناديه يؤمنون بالنادي. "قوة الإيمان" هي ما يصورها لنا، وليس "حقيقة الإيمان". يختتم حديثه بأن الفريق المعادي هو فريق فاشي، فترد شابة الحشيش: "أحا! وانتو مش فاشيين؟" لا أفهم تعليقها: "من أنتم، ومن هم، وما علاقة الفاشية بالموضوع؟" أنتبه إلى أنها منتبهة، وكالعادة، ألوم نفسي لكوني استسلمت لحالة الغياب بينما الآخرون صاحون. كنت قد نسيت تماما فاشية نادي القلعة. بمناسبة القلعة، يهتف شاب الإسكندرية إن نادي الشاب القلعة لا يبدو كالقلعة. أفكر في أن شاب الإسكندرية يبيض على شاب القلعة، ويصعب عليا شاب القلعة أكثر. على العموم، هو يستاهل، لا أحد يتحدث غيره.

الدب الطيب يتحدث: يحكي عن بولاق وعن شخص من بولاق اسمه علي يتكلم عن نفسه بصيغة الغائب، وعن الحاجة أمه وعادل إمام الذي شتم بولاق. شاب الإسكندرية يعلق على حديث علي عن نفسه بصيغة الغائب: "طبعاً! بيأسس لأسطورته"، ابحث في ذاكرتي عن الأسطورة في الموضوع، بعد قليل أفهم: "عندما تتحدث عن نفسك بصيغة الغائب فهذا يجعل ذاتك منفصلة عنك، ذاتك تتجاوز أناك، ذاتك فوق التاريخ، الله كان يتحدث عن "الله" في القرآن".

إساءات الفهم: أثناء جلستنا عند الرابي، يقول واحد شيئا ما عن الآخر، يهتف بأن الآخر راح خلاص. وينظر للشاب القلعة. أنا لا أفهم، هل يقصد أن الآخر راحت منه أم الشاب القلعة هو الذي راحت منه، أفكر في معنى راحت منه، هل يعني بها حالة الغياب عن الوعي، أم المقصود هو أن الشاب القلعة يبالغ في حكاياته وتروح منه. أستبعد الاحتمال الأول وأفكر في أن الثاني هو الصحيح، القلعة راحت منه، أشارك في الحوار، للمرة الأولى من زمان، أهتف بأن الشاب القلعة يبالغ فعلا، ولكن مش مهم، الكلام ليس بفلوس. ينظرون جميعا إليّ فأنتبه: الاحتمال الأول هو الصحيح. "راحت منه" كانت تعني أن هناك من بيننا من غاب عن الوعي. وأنا أثبت بجملتي هذه أنها قد راحت مني أنا أيضاً. أشعر بخزي مؤقت.

في رحلتي إلى المترو أسير كثيرا، أسأل العابرين عن الطريق وألتزم بما يشرحونه. ولكن يبدو لي أنني أسير في خطوط مستقيمة بلا نهاية. بنتان تصعدان سلم المترو فأصعد وراءهما، محجبتان. أفكر في أنهما يعتقدان أنني أتابعهما، وأسخر منهما. أتخيل أنه إذا شخطت فيّ إحداهما فسوف أحدثها بلهجتي الرصينة وأقول لها إنني صحفي في أخبار اليوم وإنه مش معقول أن أكون أتابعهما. فجأة أنتبه أنني أسير وراءهما فعلا، وأن السلم الذي صعدته لم يكن سلم المترو أصلا. أعود من حيث أتيت وأفكر أن الطريق طويل، أتذكر قصة ليوسف السباعي يتحدث فيها عن سلم يصعده وهو سكران ويبدو له السلم بلا نهاية، هكذا هو الطريق الآن، بلا نهاية ومليء بالاستدراكات. الطريق متاهة.

في المترو أفكر في نفسي، هل يلاحظ أحد عليّ شيئاً ما؟ بنتان صغيرتان تظلان تنظران إليّ. أخمن أن هذا بسبب البيريه الذي ألبسه على رأسي ويجعلني أبدو غريبا، فأقرر مفاجأتهما أكثر، أضع السماعة في الموبايل، وأمرر سلك السماعة من تحت التي شيرت. تظل البنتان تنظران إليّ في استغراب. وأعاود السؤال: هل يلاحظن عليّ شيئاً ما؟ أتذكر ثلاثة فتيات ركبن المترو في نفس العربة التي كنت أركبها منذ عامين. كن سكرانات، أو هكذا بدون وقتها. يضحكن بصوت عال وعلى ألسنتهن ألفاظ قبيحة. بعد انصرافهن بصق شاب في الاتجاه الذي وقفن فيه، وأثناء وقوفهن كان آخر قد هتف: "كل واحدة تاخد أجرتها وتروح". ربما فكر وقتها أنهن شراميط. وربما فكر الذي بصق أنهن يصمنه، هو شخصياً، بجوهر حديثهن السكران في مكان محافظ مثل المترو. الآن أفكر، وأنا واع أني أقترب بتفكيري هذا من الحداثة الفرنسية، بودلير على وجه الخصوص، في أن العاهرة هي النقطة السوداء في مجتمعنا، وأنها لا تأبه بمن يصمونها، وأنها تستطيع الرد بقوة على أي من يعتبر وجودهاً فعلاً مشيناً. هي تذكرنا أن جوهر وجودنا موصوم. أن وجودنا مليء بالثقوب السوداء، أنها نقطة سوداء، وأن هذا لا يختلف عن جوهر حياتنا المحافظة، حياة بيضاء، تبدو في الظاهر بيضاء، لكنها مليئة بالثقوب السوداء. هذه هي المهمة التي تنفذها العاهرة (وقتها فكرت باستخدام هذا اللفظ: العاهرة). تلخيصاً لهذه الفكرة فكرت في كتابة ستاتس: "أنت لا تصم العاهرة. هي التي تصمك".

بعدها بنصف ساعة، وأنا أشرب البيرة، أحاول حكي هذه الفكرة لرفيقي الشرب الجديدين، شاب العشوائيات وشاب الإنتلجنسيا. أقول لهما إن حياتنا التي تبدو ثابتة هي في حقيقتها معلقة فوق هاوية، والعاهرة هي التي تذكرنا بهذا، ربما فكرت أن العاهرة هي الهاوية بحد ذاتها. شاب العشوائيات يسألني عن علاقة الهوية بالموضوع. فأكرر كلمتي: "هاوية"، وأفرح في سري، هو الآخر مغيب، برغم أنه لم يحشش معنا، أستبعد أن يكون هذا قد حدث له من زجاجتين بيرة. أتذكر أن هذا الرفيق، شاب العشوائيات، لا يأتينا إلا وهو ضارب كيميا، وأفرح، انا وهو على نفس المستوى الإنساني. الرفيق الآخر، شاب الإنتلجنسيا، هو الذي لا يبدو على نفس المستوى معنا.

في هذه الجلسة أخترع قصصاً، قصة عن كتاب "حياة محمد" لمحمد حسين هيكل، والذي حاول مترجم إيطالي منصف ترجمته إلى الإيطالية لتعريف الإيطاليين بعظمة الإسلام، ولكن هذا أثار عاصفة سياسية وتم عزل المترجم، الذي كان عضوا برلمانيا، من البرلمان. أقول إنه في إيطاليا فإن موضوع الترجمة عن العربية موضوع شائك، مثل الترجمة عن العبرية في مصر، وإن اليسار الإيطالي يقول "اعرف عدوك" – يعني العرب – بينما يقول اليمين الإيطالي "لا تعرف عدوك"، وأن هذا هو سقف الجدال، ليس أكثر. ثم أتحدث عن ترجمة كتاب آخر إلى الألمانية، كتاب مهم، لا أذكره الآن، وأخترع قصة حول ترجمته. أتحدث بلهجة واثقة من نفسها، ويمتعني التصديق الذي أراه في عين شاب العشوائيات، والسخرية التي أراها في عين شاب الإنتلجنسيا. شاب الإنتلجنسيا صديق قديم ويعرف ألعابي.

اختراع القصص يريحني في هذه الحالة، يتيح لعقلي أن يسرح كما يحب. أفكر في أن مفعول الحشيش يمكن تأجيله. إذا انتبهت للحديث الدائر، وظللت منتبها، فأنت تعطل عمل الحشيش، ولكنك ما أن تقرر الانفراد بنفسك حتى يبدأ في العمل بقوة. وأمد النظرية على استقامتها: يمكنك أن تشرب الحشيش الآن، وأن تستمتع بمفعوله غدا، إذا قررت أن تظل طول اليوم صاحياً. هكذا يبدو لي أنني أسرع من أسقط في الغياب، بسبب طبيعتي الصموتة، وعدم ميلي في الغالب للمشاركة في الحوارات من حولي.

شاب العشوائيات يقول لي أني أظل ماشيا كويس، أحشش طول الوقت، وذلك إلى أن ألف بنفسي السيجارة، حينها تضيع حياتي. لا أفهم بالظبط. أسأله: "يعني بافضل صاحي طول ما انا باحشش ولما الف سيجارة نفسي باغيب؟"، فيشرح لي شاب الإنتلجنسيا إن المقصود غير هذا، المقصود إني حياتي بتضيع بعد ما ابتدي ألف بنفسي. أهتف: "تقصد الدمار النفسي يعني"، فيضحك الشاب العذراء ويقول لي: "آه، الدمار النفسي"، أبتسم متباهيا بقدرتي على خلق الإكليشيه، وبقدرتي على فهم العالم من خلال الإكليشيهات، هذا طريف، هذا يضحك من حولي.

ينظر شاب العشوائيات في عيني. يقول لي: "على فكرة، انت القارئ الشعبي، انت والجماعة دي، ماهر ووائل وناجي وربيع". أنظر له نظرة قوية. أطلب منه بلهجة صادقة ألا يخبر أحدا عن هذا الموضوع، لإني عملي في أخبار الأدب سوف يتضرر كثيرا إذا عرف المحيطون بي أننا، كمجموعة يعمل بعضها في أخبار الأدب، نحن القارئ الشعبي. أقول له إننا قررنا الإفصاح عن هذا ولكن بعد أن نترك أخبار الأدب. ينفجع شاب العشوائيات: "انت ايه نظرتك عني؟ انت فاكرني باسيح للناس وبقعد اقول دا عمل ودا معملش؟". أطمئن إلى أن الموضوع سيظل بيني وبينه وأعاود الشرب. يظل شاب الإنتلجنسيا ينظر إلى اشتغالاتي نظرة ساخرة.

No comments: