Friday, August 15, 2008

عن تناطحات السلطة: سلطة الشاعر، سلطة الأسطورة، وسلطة "السلطة" الفلسطينية


كانت أم محمود درويش تتمنى أن يدفن ابنها في قرية "جديدة"، وهي قريته التي سكن بها منذ طفولته. قالت: "كنت أريد أن يدفن ابني في جديدة، ولكنه منذ زمن طويل لم يعد ابني، إنه ابن العالم العربي كله."

الصراع الملفت حول جثة درويش انتهى بانتصار السلطة. دار الصراع بين عائلة درويش التي ترغب في دفنه بقريته "جديدة"، وبين السلطة الفلسطينية التي تسعى لدفنه في رام الله. أرادت السلطة الفلسطينية احتكار الابن الطيب لها، قمعت الرغبة العائلية البسيطة بأن يدفن ابنها إلى جانبها. هكذا تم تمزيق ما بين درويش وبين أهله بقوة، لأنه من واجبات السلطة أن تحوز لنفسها النياشين، ودرويش هو النيشان الأكبر. ما جاء ليفعله هذا المقال، هو تأمل هذا الصراع، ومقارنته بحدث آخر، تم منذ أكثر من عام، وهو زيارة درويش لحيفا، ومن هذه المقارنة نعرف كيف تخلق القصة الصحفية، وكيف تخلق السلطة أسطورتها، وتسكت الأساطير الأخرى، وتلغي حتى احتمالات تكونها.

***

في البداية، ومع تواتر الأخبار عن زيارة مرتقبة يقوم بها محمود درويش إلى حيفا بعد مايقرب من أربعين عاما من مغادرتها، بدا الجميع مرتبكا، لم يصدق أحد. بالتدريج، وخلال ساعات، بدأوا في التصديق، وفي ملاحظة أن "القصة"، بمعناها الصحافي، على وشك أن تتحقق الآن. أشارت وقتها جميع المانشيتات الصحفية إلى "العودة"، وأي عودة سوى العودة الى حيفا. الزيارة بشرت بها عناوين صحفية كثيرة وذكية: "محمود درويش عائد إلى حيفا"، "أحمد العربي يصعد كي يرى حيفا ويقفز"، و"محمود درويش على "مشارف" "الكرمل".

كل شيء كان حاضرا في هذه العناوين الثلاثة: غسان كنفاني، وهو الفلسطيني ببيروت، عبر عمله الروائي "عائد إلى حيفا"، سهام داود والتي نظمت الامسية، هي الفلسطينية بإسرائيل، عبر عملها الصحافي، بدورية "مشارف"، ودرويش يحضر عبره هو ذاته، الفلسطيني برام الله وعمّان، وعبر عمله الشعري، "أحمد الزعتر"، والصحافي، "دورية الكرمل". هكذا، تجتمع المنافي، تعود إلى فلسطين الأصلية، التاريخية، فلسطين التي أصبح اسمها إسرائيل، فلسطين 48. هكذا يمكننا ان نفهم "عودة" وليس "زيارة" محمود درويش لحيفا، الفلسطينيون يجتمعون برمز فلسطين، بالشخص الذي خلق فلسطين الأدبية أكثر من أي شخص آخر، الشتات الفلسطيني يلتم ببعضه.

***

ألفا شخص حضروا الامسية وقتها. أية أمسية أدبية في إسرائيل يمكنها أن تجمع ألفين شخصا؟ ولا واحدة. كان هذا مثيرا لغيرة إسرائيليين كثيرين، كما تشهد بذلك تعليقاتهم على تغطيات الأمسية في الصحف العبرية. قال أحدهم أنه أحس كما لو كان في أم الفحم وليس في حيفا. لساعتين تحولت حيفا إلى مدينة فلسطينية، مثلها مثل أم الفحم. بمعنى آخر أدق، ليس فقط أن درويش عاد إلى فلسطينه، وإنما "عادت" حيفا أيضا إلى فلسطينيتها، ليست فقط لأنها تحولت إلى مدينة تشبه أم الفحم، ولكن أيضا باحتشادها لرؤية خالق فلسطين الأدبية.

يصعب العثور على شخص كتب فلسطين، وارتبطت صورتها بصورته، كما فعل درويش، ربما بخلاف عرفات شخصيا. مع النكبة، فر الطفل محمود من قريته الجليلية مع الفارين، كما تسلل إليها عائدا مع المتسللين، رفض الجنسية الإسرائيلية عند سن معين، غادر فلسطين 48، ثم انصهر في مصهر الشتات الفلسطيني، بيروت، مع المنصهرين. بالتزامن مع كل هذا، كانت الأرض تنمو في قصيدته، مثلما ينمو في قصيدته المخيم الذي حل بديلا مؤقتا عن الوطن، ومثلما ينمو الفلسطيني، اللاجئ المولود في نفس المخيم. خلق درويش فلسطين حديثة تشبه تلك التوراتية، سفرجل وزعتر وسنونو، حبقا وزنزلخت، ولكن أيضا، بندقية وبركانا وهوية. الهوية كانت هي كلمة السر في عدد من قصائده الأكثر انتشارا. في النهاية لم تكن صورة وهوية فلسطين لتتكون بالشكل الذي هي عليه الآن من دونه، في هذا الأمر يبدو إنجازه أكبر بما لا يقارن حتى من إنجاز إدوار سعيد نفسه.

يدرك هذا وقتها عباس بيضون، يدرك التماهي بين درويش وفلسطين الى حد صار يمكن بمقتضاه اختزال أحدهما في الآخر، يكتب في السفير اللبنانية قائلا عن زيارة درويش لحيفا بعد 37 عاما من مغادرته لها: "إذ حينما تكون وطنية محمود درويش على المحك فإن الأمر مهول وخطر، فأن تكون وطنية شاعر الهوية الفلسطينية ورمزها الأدبي متهمة فهذا يعني أن الثقافة الفلسطينية التي احتل درويش هذا المقام فيها متهمة وموصومة أيضاً."

***

لم تنطلق كلمة بيضون من الفراغ، كانت إسهاما في سجال جوهري حول توصيف زيارة درويش، هل هي "زيارة" أم "عودة"، هل هي "عودة" أم شيئا يشبه ما يسمى أحيانا ب"التطبيع". بدا بيار أبي صعب وقتها، في الأخبار اللبنانية، وهو يطلب من محمود درويش ألا يزور حيفا مستشهادا بمقاطعة الفريق الإنجليزي "الرولينج ستون" لإسرائيل، بدا وكأنه يضرب في العمق. في الواقع كان أبي صعب مبلبلا، رمز فلسطين يتمرد على أول المحرمات بخصوصها، مقاطعة إسرائيل. أما الفلسطينية عدنية شبلي فلها إطار آخر تضع فيه الزيارة. ترد على أبي صعب في نفس المكان: "فجأة إذاً كي يصبح محمود درويش الفلسطيني مؤازراً لفلسطين، عليه أن يتحول إلى إنكليزي ذي ضمير سياسي، عليه أن يتعامل مع فلسطين المحتلة في عام 1948، بلده، على أنها إسرائيل، عليه أن يعتبر فلسطينيي الداخل على أنهم إسرائيليون، أن يعلن أن حيفا هي أرض العدو!"

محمود درويش غير الرولينج ستون. الرولينج ستون قد "يزورون" حيفا بينما درويش "يعود" إلى حيفا، الرولينج ستون عندما يزورون فلسطين فإن فلسطين تصبح هي إسرائيل، أما لدى درويش، الفلسطيني بألف لام التعريف، فأن الأمر يصبح مختلفا، يصبح التحام الفلسطيني بأرضه. ثمان وأربعون ساعة فقط كان يمكن لها أن تحشد كل العواطف حولها، تصبح الزيارة عودة، أو شبهة عودة. هكذا يضطر درويش للقول في حوار مع هآرتس قبيل سفره: "لا أريد إخافة القراء. فأنا لا أنوي تحقيق حق العودة". كما يضطر للحديث مطولا قبل السفر عن مفهوم العودة مع صحيفة الاتحاد الحيفاوية. ينفى المفهوم، من الناحية الفلسفية، مستشهدا بعوليس وإيثاكا. وللمفارقة فقط، كان درويش قد عمل بصحيفة الاتحاد قبل مغادرته فلسطين 48، والآن "تعود" هي إليه لتحاوره شاعرا كبيرا وتطلب منه استحضار فترة عمله هناك مع إميل حبيبي، أي الرجوع بشكل ما إلى ماضيه. العودة كانت هي العنوان الذي لا مفر منه للحدث.

السؤال الأساسي هنا الآن: لماذا لم يتم إذن طرح مفهوم "العودة"، كعنوان لرغبة عائلة درويش بأن يدفن ابنها بجانبها؟ لماذا تم تغييب المفهوم وإلغاء احتمال تشكل الأسطورة و"القصة الصحفية"؟ ولماذا وصفت رغبة العائلة في حدودها الدنيا: رغبة عائلية فقط وليست رمزية، اشتياق إلى جسد الابن وليس التحاما، تأجل طويلا، بين الشاعر وأرضه؟ على عكس ما حدث في قصة "العودة إلى حيفا"؟ الإجابة: لأن السلطة كانت هي الخصم هذه المرة، والسلطة هي في رام الله، وليست في "جديدة". والسلطة هي ما كانت تعني هذه المرة "فلسطين".

***


كان التئام الجرح في حيفا وقتها مؤلما تماما، تم عبر الجيش الإسرائيلي. منع الجيش درويش من البقاء في حيفا لأكثر من يومين، بينما كانت سهام داود قد أعلنت عن أن درويش لو بقى أسبوعا كما طلبت كان ليتمكن من زيارة أمه التي تبلغ تسعين عاما والمقيمة في قرية "جديدة". لا يصرح الجيش، ولكن درويش يتمكن من زيارة أمه في الثماني وأربعين ساعة التي قضاها ببلده. هكذا، تتطور القصة الخاصة بالجرح الفلسطيني: تم تقصير فترة إقامة درويش بشكل عمدي، عسكري، لمنع الشاعر القومي، شاعر فلسطين، من الالتقاء بأهله وبأرضه بالمعنى الفعلي والمجازي للكلمة. ولكن برغم المنع الإسرائيلي، فقد أمكن للفلسطيني الالتئام بأرضه وبأمه. تشتعل كل العواطف حول الأمسية، لتصبح رمزا لإغلاق الدائرة التي طال فتحها طويلا، والتعبير لمحمود درويش، الذي يقول في حواره لهاآرتس ردا على السؤال عن سبب مغادرته بلدته منذ 37 عاما: "حتى أعود بعد 37 عاما. هذا يعني أنني لم أنزل من الكرمل في 70 ولم أعد في 2007. كل شيء هو مجاز. أنا الآن في رام الله وفي الأسبوع القادم سأكون في الكرمل وأتذكر أنني لم أكن هناك لأربعين عاما، فهذا يعني أن الدائرة أغلقت وكل السفر الذي طال سنوات كان مجازا."

***

العودة مفهوم مستحيل بلا شك. لا أحد يعود وإنما الجميع يسيرون في طرق جديدة، بلا أمل في الالتفات الحقيقي إلى الخلف، ومن استحالته تنبع رومانتيكيته، هو الحلم الذي يطمح الجميع لتحقيقه ولا يستطيعون، كما أنهم في نفس الوقت لا يستطيعون التخلي عنه نهائيا. من هنا حضر عرب إسرائيل، هم ذوو الجنسية الإسرائيلية، الأمسية، بهدف العودة لفلسطينيتهم، ومن ذا قادر على منحهم إياها سوى درويش، وبهدف رؤية درويش عائدا إلى فلسطينه، فلسطينه التي لم يجد المحامي خالد محاميد، وهو أحد حضور أمسية درويش، تعبيرا عنها أكثر احتشادا من بعض أوراق الليمون جمعها من بيت الشاعر الكبير بقرية البروة التي ولد بها. ينتظر محاميد انتهاء درويش من أمسيته ليمنحها له، متخيلا بالتأكيد لحظات عاطفية جياشة، دموعا وعناقا حارا بين الشاعر وتراب أرضه، بين تراب الأرض وشاعره. ولأن لا أحد يعود فعلا، فلم يأخذها درويش. درويش كان يحاول اختزال البعد الدرامي إلى أقصى حد. يغادر القاعة مسرعا غير سامح للصحفيين بطرح أية أسئلة عليه، ومقللا بشكل متعمد من إمكانيات كتابة "قصة" صحفية عن هذه الزيارة. وعلى الرغم من هذا تمت وقتها كتابة القصة.

العكس من هذا تماما يحدث الآن. درويش نفسه، قبل موته بأسبوعين، يعود إلى قريته، يقبل أمه ويخبرها بقرار خضوعه للعملية بأمريكا. كأنه يريد كتابة قصة "عودته"، التحامه بأرضه المتزامن مع الموت، وعلى الرغم من هذا، تقرر السلطة استبعاد عائلته، فصله عن أرضه الأولى، واحتكار جثمانه لنفسها. وتستجيب العائلة، لأنه "منذ زمن طويل لم يعد ابنها. وإنما ابن العالم العربي كله." والعالم العربي يوجد في رام الله، وليس في أي مكان آخر.



المقال منشور في السفير اللبنانية بتاريخ 15/8/08، في إطار ملحق أسبوعي شامل عن محمود درويش

5 comments:

حـنــّا السكران said...

أشكرك يا أستاذ

هذا مقال ..من أجمل ما قرأت عن الموضوع ذاته في الفترة الأخيرة ..
استمتعت جدا بقراءته ..أشكرك مرة أخرى

ayman_elgendy said...

لسنا اذن امام الغاء للسلطة فهي الحقيقة الوحيدة الباقية علي حد زعم منظر شهير كميشيل فوكو ولكننا امام سلطة ايقونية تجمع بين كلمات رجل دافع عن أمة وسلطة تدعي وطنيتها وتلصق بها كل من هو وطني...المهم رام الله..كله علي الله

مقال أكثر من رائع

خالص مودتي

Anonymous said...

مقال متميز جدا يا نائل . لن يُنسى . و باشكرك على تأكيدك على مفهوم "فلسطين الأدبية" و خالقها محمود درويش" , و بفكرك بمثل مصري عامي انت اللي قولتهولي بخصوص الناس اللي بتروح عالمقبرة ..

هاني مصطفى

Anonymous said...

سلام
في يوم الأمسية إياها في حيفا كنت قد توجهت إلى البروة وأخذت معي مقصا لأقص من الأشجار البروانية قصفا من الزيتون والتوت والزرد والليمون والتين والبرتقال التي ما زالت تتزاجد في باحة بيت محمود درويش من البروة المهجرة
وتلك التوتة التي ربط بها الحصان كانت ما زالت عالية جدا
المصادفة أن المنظمين في الأمسية امتنعوا من تقديم الأغصان هذه لمحمود درويش على المنصة ولم يعلموه بأن المنصة التي يلقي عليها أشعاره تستضيف أيضا أغصان أشجار باحة بيت جده في البروة
لماذا لم يحمل محمود درويش غصفة زيون البروة ويلوح بها للجماهير التي حضرت أمسيته في حيفا معلنا هذه هي هويتي
لماذا منعني المنظمون من أن اقدم هذه الغصون لابنها؟؟
هذه مسألة جوهرية والمضيف الذي ألقى كلمة المنظمين قال لي "محمود درويش لا يحب هذه الطلليات" وتساءل "ما هذا الهوس الذي لديكم تجاه القرى المهجرة؟؟؟

لربما سأجد في هذه النقطة اسسا لاكتناه أزمة الفكر العربي!!!! لريما

خالد محاميد
khaledlajon@yahoo.com

Anonymous said...

حيفا و الجديدة هي بالنسبة لسكانها العرب ما زالت فلسطين
اما بالنسبة لدفنه برامالله فالسبب هو ليس لان رامالله اصبحت تمثل فلسطين بل لان دفن محمود درويش في الجديدة سيفتح على اسرائيل باب حق العودة للفلسطينيين وكان هذا الامر سيضع اسرائيل في مازق
لكن طبعا المحروس ابو مازن لا يقبل بوضع اسرائيل تحت الضغط
تحياتي لك
فلسطينيه