حلمت الليلة بأني أترجم مقالا، عن العبرية كنت أترجم. فجأة اكتشف أن كل الكلمات لا أعرفها. ليس فقط أنني لا أعرفها، أو ليس أنني لا أعرفها بالأساس، فأنا كنت أعرفها كلها، وإنما ليس لأية كلمة علاقة بالكلمة التي تليها، والتي تسبقها. كل كلمة كانت جزيرة منفصلة، والجزر كانت بلا بحر، كل معنى كان يحوم في الفراغ.
أنا، كمترجم، شخص خائف. خائف من اللغة التي أنقل منها. أنا، كمترجم، شخص حكم علي بأن أظل دوما بين لغتين، لغة أهلي ولغة من هم ليسوا أهلي، وأن أتحرك بين اللغتين في نفس اللحظة، أتحرك بين هويتين، بين ثقافتين وذاكرتين. أنا عميل مزدوج، جاسوس بلا انتماء. أعيش بجسدي في واقع أنقل إليه. وبوعيي، في لحظة الترجمة، أعيش في واقع أنقل عنه، والواقع الذي أنقل عنه بعيد بعيد، واقع غريب عني، وما أنا إلا منتحل، دخيل، جاثوث، أدعي فهمه، أدعي أنني كذلك، ولكنني لست كذلك، وحياة النبي لست كذلك.
اللغة التي أترجم عنها، وهي هنا العبرية، تنمو بعيدا عني، تغير نفسها وتتلون وتنقص وتزيد وتتنطط وتتعفرت وتترقص، كداهو كداهو كداهو، وكل هذا من وراء ظهري. من هنا أصل إلى استنتاجي المدوي: حلمي يا إخوان لم يكن حلما، ولا رؤيا، ولا كابوس. كان هذا هو خوفي الأساسي طول أيام عملي مترجما، وأنا عندما أعمل مترجما أكون صاحي طبعا، مش نايم، كما أنني لست دايدريمرا بالفطرة. خوف منطقي تماما: شيء ما ينمو بعيدا عني، لا تراه عيني، ما الذي يدفعه ليكون كما أتوقع، كيف أتمكن من السيطرة على ما لا أراه أصلا، وإنما أتلصص عليه فحسب بين الحين والآخر؟ خوفي من اللغة الأجنبية، هو في نفس الوقت غيظ من نفسي، لأنها لا تستطيع رؤية كل شيء، هو خوف من الأشياء البعيدة، وقديما تحدث شخص اسمه رودولف أوتو عن شيء مثل هذا، واخترع بهذه المناسبة كلمة اسمها النومينوز، أو أنه أعاد اكتشافها من تراب اللاتين، وترابهم كثيرا ما يكون عامرا بالأطايب.
قراء المدونة الكرام يعرفون العفاريت طبعا. مدونكم المحبوب أيضا يعرفها، وعندما كان مدونكم صغيرا كان يعرفها، وكان يخاف منها. كان يخاف من اختفاء العفريت أو ظهوره، ولكنه، ورغما عنه والله، كان يضحك إذا تخيل العفريت يظهر ويختفي أمامه. ما كان يميته في جلده رعبا عن حق ربنا، أن يرمش بعينه، أن يغمض ويفتح في ثانية ليجده العفريت قد ظهر. الأشياء التي تحدث بعيدا عن أعيننا هي الأكثر إخافة. لم أخف يوما أن أفتح الجرنان العربي فلا أفهمه، كان خوفي دوما من اللغة الأخرى. لكل مرؤوس رئيس، والرئيس الأكثر هيبة هو الأجدر بالطاعة والخوف، واللغة الأخرى هي الأكثر هيبة من لغتي التي لا تغفل عيني عنها لحظة. نعرف جميعا أن الشيخ البعيد سره دوما باتع.
المترجم محكوم بحمل صخرة على كاهله والصعود بها إلى قمة الجبل ثم دحرجتها من فوقه لينزل ثم يعاود حملها. لن يتخلص المترجم من سطوة الشيخ البعيد عليه، لن يتخلص من كابوسه القديم. وسيظل يحلم بترويض الوحش المفترس (العبرية)، وبتحويله إلى قط لذيذ ومطيع (العربية)، ولكن هذا لن يحدث، أو على الأقل، ليست هناك ضمانات كثيرة بأن يحدث. كثير من قراء المدونة الكرام يذكرون قصة محمد الحلو مدرب الأسود، والكثيرون لا يذكرونها أيضا. ياريت بقى اللي فاكرها يحكيها للي مش فاكرها.
7 comments:
كل ده علشان مقالتين عمي - يعني مش بيشوفوا - من هنا ولا من هنا وتنشرهم في جرنالكم امال لو مترجم عليك القيمة وبتترجم كتب بقى وادب حقيقي وكده كنت عملت في نفسك ايه يا اخي ارحمنا بقى
في نهاية فيلم جودزيلا -الديناصور الضخم الذي هدد أمن امريكا و باض بيض كتير تم تدميره في النهايه - نكتشف نحن المشاهدين أنه ما تزال هناك بيضه وحيده لم تدمر ، بيضه ستفقس و يخرج منها وحش أخر ، ثم ينمو هذا الوحش و يخرج ليهدد أمننا -نحن البشر- من جديد ، هذا أشبه بما يحدث للغه العبريه هنا، أنت تجلس على المقهى و تذهب لعملك و تأكل و تشرب و تضاجع دون أن تدرك أنها تنمو و تنمو بعيدا عنك في الظلام ، حتى تجدها ذات يوم و هى تقفز من بين سطور مقاله مكتوبه بالعبريه لتلتهم رأسك ، مقاله لن تستطيع -عزيزي نائل- أن تترجمها ، ستقف أمامها و أنت ترتجف من الرعب ، عندها فستدرك حجم الخطيئه التى إرتكبتها عندما عملت مترجماً ، ستتمنى لو أنك درست التجاره مثلا ، أو أنك قد أنصت لكلام كمال الطوخي عندما كان رافضا لدخولك قسم العبري ، أو حتى لو أن أمك لم تكن ولدتك ، هذا هو الخطر القادم ، خطر اللغات الحيه التى تتحور لتصبح لغات مميته ، كان الله في عونك أيها المترجم من العبريه إلى العربيه :نائل الطوخي
سلامو عليكو
هناك عبء على المترجم رهيييييييب .. وهو نقل فكر الكاتب كما حضره في رأسه و أساء نقله الي الورق في صورة موفقة .. أخشي قراءة الأدب المترجم .. ماعدا شوية كتب كده .. بس تصدق العبء عندك قلب تدوينة حلوة
شغلك في أخبار الأدب ماشاءالله
أنا بقترح تسافر تعيش في إسرائيل شوية، استخدام اللغة يوميا أكيد هيفيدك كتير، وأكيد هيكون حاجة حلوة بالنسبة لك. يعني، دا هيقربك من اللغة وتطورها واستعمالها وفي نفس الوقت هيكسر شوية رهبة بينك وبين الرئيس الأكثر هيبة. وده مش هزار والله، ده اقتراح حقيقي. بس في حاجة، في مصر مثلا، العامية بتتطور بشكل أسرع من تطور الفصحى، لأن العامية أكثر استخداما، وأي حاجة أكثر تداولا بتتطور أسرع، العبري متهيألي مفيهوش عامية وفصحى، إنما لغة الشارع أكيد مختلفة عن لغة كتابة المقالات والكتب، أكيد بياع البطيخ الإسرائيلي أكثر دراية منك بلغة الشارع وتطورها، لكن متهيألي انك أكثر دراية منه بشكل ما بلغة الكتابة، الشكل اللي بيتيحهولك اطلاعك الدايم على الجديد والمهم بالنسبة لك في الكتابة العبرية، متهيألي ان دا شكل من أشكال مراقبة الغريب، الواقع اللي انت دخيل عليه، أنا واعية طبعا ان لغة الكتابة دي بتتأثر بنفس عوامل تطور اللغة العبرية كلها، وان الكتاب دول بشر إسرائيليين عايشين هناك، انما حبيت بس أشاور على "الشكل دا" من مراقبة الغريب، اللي هو مش كامل طبعا، ومش بقدر مراقبة بياع البطيخ، لكنه بيشكل احتمال -وده رأي شخصي- حمايتك من مصير محمد الحلو في يوم من الأيام :). ده مش معناه انك تطمن، بالعكس، لازم تفضل خايف، لأن مفيش حد فينا بيعمل حاجة في الدنيا بضمير وهو مش خايف منها، وحلمك دا مبيوحيش ليا بانه واقع قد ما بيوحي ليا بانك بتشتغل بضمير زيادة شوية بس :))
وألف مبروك على استغلالك الأجازة اللي كانت مش عجباك :) متهيألي تبطل تقسى على نفسك شوية بأة؟
من أجمل ما قرأت عن "مأساة" المترجمين وليس "الترجمة"!!
مش عارف أنتة هتشوف التعليق ده ولا لأ لأنه على بوست قديم
بس عموما يظهر أن ربنا يظهر أن ربنا ما بيخليش نفس الواحد في حاجة
راجع تعليقي اللي على البوست الأخراني تلاقي أني مهتم جدا بالموضوع ده
بس من مترجم لمترجم : أنت في ورطة يا صديقي
يعني أنا قدرت أتفرج على الوحش في التلفزيون أو أقابل ناس يجيبوهولي لحد مصر أتفرج عليه و أرجعه تاني أو حتى الواحد يحوش و يروح للوحش في بلاده ، أما أنتة فطريقك مسدود مسدود يا والدي
متخيل شكلك و أنتة بتطلب تأشيرة لأسرائيل .. علشان تتفرج على الوحش
أكيد هيكون رد الظابط : ليه تتعب نفسك و تسافر .. تعالى أوريهولك
Post a Comment