ما يتفق عليه الجميع، على الأقل الآن، بين الحكومة والمعارضة، بين من دعوا إلى الإضراب ومن اعترضوا عليه، هو رفض التخريب.
في كل من الخطابين، الرسمي والمعارض، تم دفع أعمال التخريب التي تمت في مدينة المحلة إلى منطقة بعيدة، لا تمثل أحدا، منطقة تقع في كوكب وسديم آخرين. تبرأ منها الجميع. المعارضة قالت أن الأمن هو من دس عناصره بين المتظاهرين ليقوم بتشويه صورة الإضراب، أما الحكومة فقامت بتصفية فكرة الإضراب عن طريق التلويح بورقة التخريب. وعن طريق المماهاة بين خصومها السياسيين والمخربين، فقد اعتبرت المخربين كلهم هم من بخارجها، من يقفون في صف المعارضة. لم يشر الخطاب الحكومي إلى الإضراب و إنما إلى التخريب، وبهذا الاستبدال لمعاني الكلمات تمكن من تحطيم فكرة الإضراب، وبالتالي فقد برأ نفسه وبرأ "شعبه" من تهمة التخريب، ف"عمال المحلة يرفضون التخريب والإضرار بممتلكات الغير"، ولذا وجه الرئيس مبارك إليهم التحية، كما نعرف. هكذا ظل التخريب بعيدا، ظل موجودا في معسكر الأشرار، الذين لا يمثلون ولو واحدا بالمائة من الشعب، إنهم دائما وأبدا محض صفر.
***
كثيرا ما كان يتم توجيه الأعمال غير المرغوبة - قتل غير مفهوم الأسباب، فتنة طائفية، اغتيالات سياسية- إلى منطقة الجنون. عبر الدفع بأن الجاني مختل، أمكن كنس الزبالة كلها إلى ما تحت السجادة. بدفع كل الأعمال التي نكرهها والتي لا نرغب في مناقشتها بشكل علني إلى عمق المرض النفسي، يمكن للمشكلة أن تظل غامضة، ويحمينا هذا من 1 – مناقشتها باستخدام المنطق، لأن الجنون لا يناقش منطقيا - 2 – حلها، لأن حل الجنون هو المزيد من الجنون، وليس العقل بالطبع.
ما حدث في الأيام الماضية كان شيئا آخر: تم دفع التخريب، عبر الاكتفاء بوصفه بالتخريب، وليس الجنون، إلى منطقة الشر الخالص. لم يكن للتخريب هدف ولا سبب ولا غاية، كان تخريبا وخلاص، كان تدميرا غير مبرر. كان مثل شر الشياطين، بلا منطق ولا عقل، وفي هذا كان شبيها بالجنون.
عدم تبرير التخريب كان منهج الخطاب الرسمي، وليس الخطاب المعارض. الأخير ادعى أن التخريب تم من قبل الأمن بهدف تشويه صورة الإضراب، ولكن الخطابين اشتركا في عدم إعطاء صوت للتخريب. الكل ألقى بالكرة في ملعب الآخر. الكل تبرأ منه. المعارضة مسئولة عن الإضراب، والحكومة مسئولة عن قمع المخربين، والتخريب نفسه ظل بلا أب، بلا صوت ولا منطق ولا محركين.
***
النتيجة هي العقلانية المفرطة التي ظهرت عليها صورة الشعب في خطاب المعارضة: الشعب ثائر، ولكن ثورته تتم بشكل سلمي، ولا شيء يدفعه للخروج عن القضبان التي رسمتها له المعارضة ورموزها، ومعها تقاليد العمل السياسي السليم، وحتى في الظروف المهينة التي يعيشها، فإن الشعب يظل ابن ناس، متربي كويس، نضيف وعاقل ويسمع كلام معارضته بلا نقاش، لا يزيد عليها ولا ينقص منها. هذا هو الشعب الذي تريده المعارضة، شعب مدجن، ينتمي للحياة والحب، والثورة، "باعتبارها فعلا ينتمي للقيمتين الأولين"، ولا وجود لأي أثر من قوى الجنون والدمار بداخله، شعب لم يشوهه النظام، وامتثالا لأوامر المعارضة، فهو عصي، أبي، صامد، لأنه يقف خارج التاريخ أساسا.
الشعب الذي تريده الحكومة لا يختلف كثيرا: شعب طيب، حنون، يفرح برغيف العيش إذا وجده، وإذا لم يجده فلا يتوقف عن حمد الله. شعب لا يحارب إلا الأشرار الذين يزايدون عليه ويقومون بأعمال التخريب باسمه، وهم منه براء، هو شعب خارج التاريخ أيضا، أسطوري ومثالي.
هكذا تم كنس زبالة التخريب الى تحت السجادة، فلم يعد أحد يراها ، وفي قصص نبيل فاروق، فإن خلية واحدة من جسم الوحش تبقى في نهاية القصة ولا أحد ينتبه لها، لتصبح بشارة على تحولها القريب إلى وحش كاسر يشبه بالضبط ذلك الذي تخلص منه أبطال القصة لتوهم.
8 comments:
لا فُض فوك
أتفق معك
تقريبا قلت ما كان يدون بذهني اليومين الماضيين
تحياتي
تقسيمك للكل على قسمين بس ، حكومة ومعارضة ، واحتيارك لضم المخربين لأي قسم ، فيه نبذ للمخربين وتقرير إنهم فئة مش مستقلة بذاتها .شايف ده تهوين من شأنهم ، رغم إنهم كانوا أقوى تأثيرًا من القسمين . يمكن كانوا في انتظار تقدير أكبر من تقسيمهم كلقطاء ماحدش راضي يرعاهم
! حتى أنت يابروتس
:()
تحليل قيم فعلا، لكن اتفق مع لايف أنه مسألة اخفاء المخربين تحت السجادة، والتبرؤ من أفعالهم محيرة، لذا أعجبني الختام الذي يصور التخريب على أنه عائد مرة أخرى من حيث لا يعلمون، كخلية سرطانية كامنة، نجحت في الفرار من العلاج، وتنتظر العودة
**
الحقيقة.. ومن نفسية سوداء :)
حاسس أنه الموضوع محتاج لون أسود أكتر.. يعني الواحد بيفكر في عودة التخريب، أو سلطة المخربين، وسيادتهم في وقت من الأوقات
بس مش أقصد على طريقة أحمد السقا.. أنا الحكومة
إنما من منطلق إن بضعهم أصحاب صوت، ومشاركات سابقة في ممارسة السلطة، سواء اللي كان بيقوم بعمليات قذرة للأمن أو اللي كان بيمارس بلطجته على الناس فعلا، أو اللي كان بيخالف القانون وفي نزاع من الأمن.. ودول فيه منهم ناس عاديين زي سواقين التوكتوك والميكروباصات، والباعة الجائلين، طول يومه بيبقى حاسس انه مخالف للقانون، وفي نفس الوقت هو بيمارس سلطة أحيانا على المجتمع بالقوة
الفكرة دي مسيطرة شوية على تفكير الواحد بعد الانتخابات اللي استخدم فيها الأمن بلطجية وسواقين ميكروباصات.. القوة دي فعلا - اذا صح نقول عليها قوة - شاركت في حدث سياسي زي الانتخابات، حتى لو تحت جناح الأمن، هل ممكن في يوم من الايام انها تحاول تنازع أو تشارك في السياسة؟؟؟ ما هما شاركوا قبل كده فعلا وجربوا المسألة، وحسوا بقيمتهم كمؤثرين في احداث سياسية
فكرة انه فيه بلطجية أو غوغاء - الكلمة دي فيه ناس بتكرهها أكيد- إنهم شاركو في احداث المحلة، عن نفسي متأكد منها، مش مهم مع الأمن ولا مع نفسهم، ليه ميكونش فيه منهم عايز يشارك في السيادة على خلق الله، بدل السلطة المنقوصة اللي معاه.. أقصد الفئات اللي مخالفة القانون، لكنها خاضعة للأمن وموظفين الدولة..هل مثل هذه الأحداث ممكن تكون فرصة للفئات دي لممارسة السيادة سواء ضد الأمن اللي محسسهم انه وجودهم وارزاقهم غير شرعية، أو مع المواطنين أو المال العام أو الخدمات اللي مش بيستفادوا منها، ولو بتكسير محلات
مش عارف.. في وقت الفتن بيكون المسيطر على الأمور هو الأعلى صوتا، والأشد صخبا
الحاجة الوحيدة اللي مانعة ده هو انه الأمن ماشاء الله بقوا كتييييير، يمكن مع أي ازمة سياسية او حرب واسعة في المنطقة أو ازمة اقتصادية أقوى يحصل السيناريو الكارثى
**
عموما أتمنى لك صباح جميل ومشرق بعد التعليق السوداوي ده.. اذا تحب تنشره اساسا
:))
ليس في الامر إهانة لو اطلقنا على ما تحت السجادة تعبير " صعاليك المدن " فلم يكن تعبير " اولاد الشوارع" قد تجذر بعد أول مرة اسمع هذا التوصيف كان بعد أحداث انتفاضة يناير 77 حيث طرح سؤال عن دور هذه الفئة وفيما غذا كان النهب والحرق والتخريب قد حدث بشكل تلقائي من هذه الافئة بوصفها تعبير عن حالة التهميش التي تعانيها سواء من المعارضة او الحكومة أم كان هناك استخدام من الأمن لهم لتشويه الانتفاضة ولكي يخرج رب العائلة ويتهم بمن خرج هذين اليومين اي 18 و19 يناير 777 بانهم حرامية ويعيد الشعب لحظيرة عمدة القرية
هناك عدة مئات في كل مدينة هذا على اقل تقدير من مما يطلق عليهم اطفال الشوارع
وإن لم تستخدمهم المباحث للتخريب فهم سيفعلونها كده او كده فلم يعطهم المجتمع اي شيء وعليه فرد الفعل العنيف له تبريره المقنع عندهم وعندي انا كمان شخصيا
السؤال القديم والذي طرح ايضا بعد انتفاضة يناير اطرحة من جديد: هل هناك من إمكانية للوصول بهؤلاء ليكونوا جزء من الانتفاضة .. لا اقصد الترويض والاستخدام بل الوصول بهم بأن ما هم فيه نتيجة اوضاع لابد لها ان تتغير
ام ان الجمال الذي واجهتني به أزهار شجرة الكريز تحت شباكي قد اتلفت البقية من قواي العقلية
المخرب ممكن يكون في لحظة سابقة معارض/موالي/لامبالي. التحول دا مش دائم و لا يدل على أي شيء؛ الشخص الراسي المسيّس ممكن ينجرف في التخريب في لحظة، فما بالك و هو أصلا لا مسيّس و لا راسي و كمان غاضب.
لا أظن أن المعارضة ترى الشعب على أي صورة؛ مهاود/منقاد أو غيرها. أصلا الإضراب لم تدع له معارضة لها رؤية و أهداف تقود الجماهير من أجلها. الإضراب دعا له أفراد معارضين و غاضبين، لكن زي ما أنت كتبت مش لازم ننجرف للحديث عن ما حدث من تخريب على أنه له علاقة "بالإضراب"
دا رأي شريف عبدالعزيز و لي تعليق ممكن يكمل رأيي ال هنا.
مممممم طب و مين يا تري تري هما المخربين اللي مستخبيين تحت السجادة حكومة و لا معراضة و لا شعب؟ ;)
النتيجة هي العقلانية المفرطة التي تظهر عليها هذه التدوينة، والتي تخلو من سطر ساخر واحد، حتى لأني قلقت عليك بالفعل.
في حد مزعلك يا نائل؟ قوللي أنا فكيهة!
بالعودة للموضوع، أنا لا أعتقد أن قصدك هو عزل المخربين عن كل الساحات، قدر ما هو السخرية من فكرة ربط المخربين بساحة بعينها. لا أعتقد أن كلامك يوحي بنبذ المخربين أو إقصائهم قدر ما يسخر من هذه الفكرة نفسها. شخصيا أعتقد بأن المخربين ينتمون لكل الفرق ببساطة. ليس غريبا أن ينتهز الشعب العايش خارج آدميته الفرصة للتعبير عن غضبه غير المحتمل بالتخريب، وليس غريبا أن يمتثل أفراد الأمن -الذين هم من الشعب أيضا بالمناسبة- للأوامر التي لم يعرفوا معنى لل"تفكير" فيها من قبل. بل وأكثر من ذلك، ففي الظروف الحالية سيكون أقرب للنكتة اعتبار "التخريب" تهمة يتهم بها كل فريق الآخر، وينفيها عن نفسه، أو كرة بين الأقدام في الملعب.اعتبار "التخريب" فكرة غير أخلاقية في هذا الوضع والبحث عن "جاني" لتحميله التهمة، هو تبسيط غير أخلاقي أصلا، غير أخلاقي لمجمل الظروف والعوامل ولكل الأطراف
ولا ايه يا مرسي؟
يوجد في المدرسة فصل اسمه فصل العيال الوحشين.. فيه خمس عيال.. تيجي تسأل أي مدرس في الفصل عن اسم العيل الوحش يقولك مش هوة.. أمال مين الوحش اللي في الفصل؟
بأسمي طريقة التفكير دي "طريقة العيال الوحشين" أحد أنماط الاستهبال اللي احنا عايشينها..
نفس النظرية دي شفنا الميديا الحكومية بتطبقها على العمال ، واليسار ، والشيوعيين ، والأحزاب الشرعية ، والشعب ، والحزبوطني.. الشعب "رفض الاستجابة لنداء المخربين" (كرم جبر) ..اليسار بشهادة الحزبوطني المعارض الشريف الوحيد في مصر (كما يكتب محمد علي إبراهيم).. العمال .. عمال مصر لاممكن يضربوا أبداً (مفاد تصريح مضحك لوزيرة القوى العاملة).. والحزبوطني حامي حمى الاستقرار من أجل اللي مش عارف إيه..
الحقيقة إن كل العيال اللي في الفصل وحشين ، مضافاً إليهم مدرسيهم اللي بينكروا إن الفصل فيه عيال وحشين.. اللعبة كلها أشك إن الحزبوطني على علم بيها ومنسقها مع قيادات عمالية وبعض الشيوعيين ، والهدف منها تحقيق مكاسب سياسية والمد عامين آخرين لقانون الطوارئ.. والفضاء الذي حاولت ميديا الحزبوطني إيهامنا بأن المخربين قد أتوا منه لم يكن سوى الأرض التي نمشي ونعيش عليها.. تماماً مثلما تكتشف أن عماد حمدي هو القاتل المجرم في نهاية الفيلم.. هكذا أرى .. والله أعلم..
Post a Comment