صيف 96: أقترب مترددا. أقول له أنني دخلت آداب قسم عبري. لا يستوعب في البداية. ينظر لي طويلا، والنظرة الطويلة علامة على صعوبة الاستيعاب. يسألني: إشمعنى؟ ولا ينتظر إجابة. يقول ببطء: ازاي تدخل قسم عبري إذا كان خلال خمسة وعشرين سنة مش هتبقى إسرائيل موجودة.
تأملوا معي، انظروا ولا تستسلموا لغواية ملاحظات الوهلة الأولى. كمال الطوخي لم يكن مجنونا وطنيا، ولا قوميا مهووسا. هو لم يكن شيئا على الإطلاق. كان فقط، مثل أي أب، يريد لابنه أن يعمل بعد ما يتخرج. ويرى أنه حين يتخرج ستكون العبرية قد أصبحت لغة ميتة، وبالتالي فسيقعد ابنه عاطلا، لأن إسرائيل، وهذه معلومة أكيدة في رأيه ولا صلة لها بأية أيديولوجيا، ستكون قد انتهت.
***
كمال الطوخي هو إنسان النظريات. كل شيء يحدث في رأسه وما يحدث خارجها إنما يحدث بفضلها هي فحسب. فوضوي وغير مسئول ولا يعتمد عليه ويحب دماغه أكتر من أي حاجة. تجرأت مرة وقلت له أن ما يبهرني فيه هو عدم إحساسه بأي مسئولية، تجاه زوجته وأولاده وأي شخص ف الدنيا. ابتسم بثقة. قال لي: أنا بس بخطط لها كويس. من هي التي كان كمال الطوخي يخطط لها كويس؟ الدنيا، الشغل، رحلة الكفاح، خطواته؟ لا أحد يعرف. إنها لزمته المفضلة. يرى نفسه ناجحا لأنه لا يدخل أي شيء بدون تخطيط. هو يقلب المنطق وينطقني ما لم أقله، عكس ما قلته بالتحديد، ويقول أنه يخطط لها كويس، ولا يشعر لوهلة بتأنيب ضمير لأنه واصل كلامه بعدي وكأنه يكمل ما أقوله ولا يهدمه. ذات يوم، رأى كمال الطوخي جملة مكتوبة بخط عريض في الجرنان ، النجاح لا يأتي صدفة، قص الجملة بعناية وعلقها على دولابه، أصبح هو والجملة شيئا واحدا، حرص أن يلفت نظرنا للجملة طول الوقت، وله، ويقول أنا النجاح وهذا نجاحي وهو لم يأت صدفة. كمال الطوخي الذي لم يكمل أي مشروع لآخره أبدا، كمال الطوخي الذي لم يخطط لها، بصرف النظر عمن تكون هي، ولا مرة في حياته. كمال الطوخي الذي هو إنسان النظريات.
***
كمال الطوخي سافر إلى الكويت وهو عنده تمنتاشر سنة، مرض أبوه فسافر، يحكي عن هذه الفترة: "كنا بنفتح حصالات عماتك علشان نجيب بالفلوس اللي فيها أكل." سافر أبي إذن، الذي هو "أبيه كمال" على لسان عماتي الأصغر سنا، وهناك وكّل أمه لكي تشتري له أرضا تلو الأرض، في مدينة نصر والهرم والعامرية وعزبة النخل، تم إنقاذ الأربع عائلات للأربعة أعمام، وبقى أبي وحده في الكويت، وسنعرف في السطر التالي أن هذا لم يكن مصيرا مشرقا بما فيه الكفاية.
كمال الطوخي طرد من الكويت بعد غزو صدام، وقعد في البيت بلا شغل، بلا فلوس بعد أن ضاعت فلوسه هناك، وتقريبا بلا أولاد لأنه اكتشف أنه غريب بين أولاده. ثم تذكر أن له أرضا في العامرية وأرضا في مدينة نصر، وفكر في زراعة أرض العامرية أو بناء عمارة في أرض مدينة نصر، وصلى صلاة الاستخارة وأتاه الهاتف أن عليك بالعامرية. وسبب آخر يضيفه الطوخي: "الفلاحين هينصبوا عليا في عشرة عشرين جنيه، بس مقاولين العمارة هينصبوا عليا في مية ولا ميتين ألف". اختيارا لأهون الشرين إذن، واقتناعا منه بأنه منصوب عليه لابد، ذهب وزرع أرض العامرية، عاونه في زراعتها فلاحون كان يصفهم دائما بأنهم أولاد كلب، وأولاد الكلب كانوا على مستوى توقعاته تماما وأفضل: عندما زهق من الزراعة أخذ يؤجر لهم الأرض قطعة قطعة. فصاروا يدفعون مرة ومرة لا يدفعون، ويسرقون الوصولات التي يكتبها عليهم، ينطون على سقف بيته ويسرقون شنطة الوصولات.
***
كمال الطوخي تزوج تلات مرات، أم اخواتي ثم أمي ثم مراته التي لن تكون أما لأي شيء. بعد موت أمي كان يحاول تقريب الفكرة لنا بكل الأشكال، كان يشرح لنا أنه يخاف أن يموت وحده في الأرض، على هذا الأساس كان احتياجه لامرأة أربعينية: "مش عاوزها عندها تلاتين سنة. دي هتبقى عاوزاني أهشكها". هكذا قال أبي بحكمة من أكمل الخامسة والستين بجدارة. ولأنه لا يريدها بثلاثين سنة فقد تزوجها بخمس وعشرين.. إنه إله في جسم إنسان يا أولاد.
.....................................
...................................
...............................
يجلس مع ماما، وإعلان التليفزيون عن لبن ميلكي شغال. يقول لها بعد لحظة تأمل طويلة وشفطة من الشاي: عارفة يعني إيه ميلكي؟ تنتظر أن يرد بنفسه على سؤاله فيعتبر صمتها علامة جهل منها. يشرح: ملكي يعني بتاعي. يعني علبة اللبن دي بتاعتي. تقول له، كم كانت متحمسة زيادة عن اللزوم، الفاتحة لها يا إخواني: ميلك يعني لبن. ينظر لها نظرة طويلة ويبتسم باحتقار. تقريبا لا يرد. كم أحن الآن لتلك النقاشات اللغوية الفيلولوجية الرصينة حول جذور المفردات والعائلات المختلفة للغات الحية.