آن الأوان يا إخوان لكي ندرس واحدا من أهم الأدوار في تاريخ كلمات الأغنية، الدور الذي قام به الشخص الشرير، الذي يقف في الغالب على مبعدة، وينتظر فشل قصة الحبيبين ليضحك، والذي يفتتح زمن السرد في الأغنية المكتوبة ويحولها من أغنية إلى دراما. وحديثا هذه المرة هو عن العزول.
العزول مثل مرعي بتاع الكِلِمة في أدبيات القرموطي: يسمع عنه الجميع ولا أحد يراه، وباستثناء جمل قليلة مثل "يا عوازل فلفلوا" فإن الخطاب أبدا لا يتوجه إلى العزول، ولا يتم على لسانه بالطبع، الحديث دائما عنه، لا إليه ولا منه. البعض سخروا من وجود العزول في الأغنية. نرى بيرم التونسي مثلا يتحدث عن ذلك الفرد من أهل المغنى واصفا إياه بالقول: "طالع نازل يلقى عوازل واقفة بتستناه/ واللي جابت له الداء والكافية طرشة ماهيش سامعاه." وعلى الرغم من محاولات كتلك لانتقاد وجود العزول، فإن هذه التدوينة جاءت بالتحديد للدفاع عنه، هو المسكين الذي لم يكن له صوت أبدا.
ما نعرفه أن أصل العزول يرجع إلى مفردة العذل أي اللوم، واللوم في الغالب هو محاولة لإثناء المحب عن الارتباط بهذه المحبوبة بالتحديد، أو العكس. أحيانا ما يكون العزول شخصا غير مقتنع باستحقاق المحبوبة لمحبها، وأحيانا ما يكون، بالعكس، راغبا في هذه المحبوبة بالتحديد وبالتالي فهو يقوم بما في وسعه للقضاء على الحب الذي يربط بين محبوبته وبين شخص آخر، يراه عدوا، وفي الحالتين فهو شخص غير شرير. إما أنه شخص محب أو أنه غير مقتنع، وهذا ليس شرا يا سادتي بالطبع. غير أنه على العكس من ذلك، فالأغنية فعلت كل ما في وسعها لكي تتجنب تبرير العزول، أو شرح خلفيته وأهدافه، وبالتالي حصرته في خانة الشر الخالص، غير المفهوم والشيطاني والذي لا يمكن التسامح إزاءه.
ربما تكون الجريرة الأساسية للعزول هي في التالي: أنه دائما خارجي، دوما ما يكون بخارج المحب والمحبوبة، دوما ما يكون هو الشخص الثالث، وهو المتحدث عنه بضمير الغائب. هذا ذنبه وهذا العقاب على ذنبه أيضا في نفس الوقت. في مسيرة جدلية مرعبة، أرادت الأغنية عقاب العزول فجعلته عزولا، جعلته ثالثا وحصرته في ضمير الغائب، للانتقام منه لأنه ثالث ومحصور في ضمير الغائب. مسيرة جدلية عبثية لا تستقي تبريرها إلا من نفسها.
لماذا إذن كان وجود العزول ضروريا: رأيي الشخصي، أن وجود العزول في الأغنية هو شرارة بدء الدراما فيها، بدء الصراع، تضحى الأغنية ساحة صراعات بين "الخيرين" والأشرار"، وبالتالي يوجد ما يمكن الحكي عنه، بخلاف عيون حبيبي وقلبي. ربما كان العزول هو الإثبات الأكثر عراقة على أن الحب إنما هو صراع لتأكيد الهيمنة ليس أكثر. لنتأمل معا الجملة التي يشدو بها عبد المطلب قائلا: "وازاي بعد ما فرحني/ بيفرح فيا عزولي؟". هذه هي شكوى المحب من محبوبه: إنه، بهجره له، قد أصبح آداة في أيدي أعدائه. ليس الموضوع هو الهجر إذن، وإنما ازدياد الأعداء قوة بتحول المحبوب عن محبه. الموضوع هو الصراع وتوازنات قوى هذا الصراع، لا الحب الحزين واليائس. هذه الجملة تلقي ضوءا أيضاً على تقسيم الأدوار في الأغنية، فالأخيار، ليسوا أخيارا، إنهم خيّر واحد، وهو أنا، والأشرار هم شرير واحد، وهو العزول، أما الطرف المحبوب، الذي "مابيسألش عليا أبدا/ ولا بتشوفه عينيا أبدا"، فهو آداة في خدمة الجانب الطيب أو الشرير، وبحسب انتقاله إلى هذا الطرف أو ذاك، ينتصر الخير أو الشر. المحبوب هنا هو آداة، لم تحسم موقفها بعد، وعندما تحسمه، فإن هذا سيكون نهاية القصة. إن كانت بانتصار عبد المطلب أو عزوله.
لننظر إلى هذه الجملة. كاظم الساهر يرى المرأة التي يحاول خطب ودها، بتعبيره، فيتقدم منها: "أنا شفتك تمشين لوحدك/ سرحانة وإيدك على خدك/ ببراءة جيت أطلب ودك/ ونكيد عزالي وعزالك." لنتأمل قليلا هنا. لا يصبح هدف الحب، هدف خطب الود، كما تبينه الأغنية، إلا كيد العزال، إلا الانتصار على معسكر الأشرار، وهو المعسكر الذي يقبع خارج كل من المحب والمحبوبة. في الحقيقة، فإن هذه الأغنية، واسمها "ويش صار"، لكاظم. تمضي خطوة أبعد، إنها تجعل من وجود العزول سابقا على وجود الحب بين المحب والمحبوبة. فلأي شيء صار هذا العزول عزولا إذن مادام الحب لم يربط أصلا بين الاثنين؟ لا تشرح لنا الأغنية. ربما أرادت أن يكون وجود الشر سابقا دوما، الشر، ومعه الصراع، قد وجدا قبل الخير، أي الحب. للشر دوما مجد ابتداء العالم، كما يشرح لنا كاظم.
***
هل يمكن، باستخدام هذا القياس، عن ظهور دور العزول في الأغنية وافتتاحه زمن الدراما، فهم شيء ما عن العنصر الغامض الذي يدفع شعراء، كثيرين وجيدين، لأن يكتبوا روايتهم الأولى؟