قررت مجموعة فلسطينية تحدي حل الدولتين لشعبين، والتركيز على حل الدولة الفلسطينية الواحدة من البحر إلى النهر لكل مواطنيها بلا تمييز.
أخذت هذه المجموعة تدعو لفكرتها طول الوفت. لاقت الفكرة انتشارا متزايدا بين الفلسطينيين، في الداخل والضفة والقطاع، انتشرت صفحة على الفيسبوك بعنوان "كلنا الدولة الواحدة"، دخل الصفحة في اليوم الأول لإطلاقها أكثر من مليون ونصف مشترك، ثم سرعان ما تحولت الدولة الواحدة إلى عنوان للنضال الفلسطيني. نسي الجميع حل الدولتين. أصبح جزءاً من الماضي التعيس.
في إحدى اللقاءات طرح أبو مازن هذا الحل على بيبي نتنياهو. قال له: "يا أخي عندي حل معقول. بدل الاحتلال والجيش والقرف دا، خدوا الأرض، بدال ما هي ارض محتلة ومالهاش صاحب، خدوها، خلوها بتاعتكو".
نظر له بيبي نتنياهو
- اه والله. مش مصدقني. بتكلم جد والنعمة.
واصل بيبي نتنياهو النظر. فجأة: "عزيزي سيد ابو مازن. هل انت جاد؟"
"والله العظيم جاد. وحياة بنتي آية." لحظة صمت "بس بشرط واحد. خدوا الارض بالناس اللي عليها"
قطب بيبي حاجبيه، ثم قال: "عظيم. سنستعمل الفلسطينيين لكي يستخرجوا لنا الحديد من بحيرة طبريا".
ولكن إسرائيل دولة ديمقراطية، كما يعرف الجميع، ولا برضى القانون الاسرائيلي أبداً بأن يعمل شعب كامل في استخراج الحديد من بحيرة طبريا. أصبح لزاماً على الدولة الاسرائيلية أن تستوعب القادمين الفلسطينيين بوصفهم بشراً ذوي أصوات انتخابية، وكانت هذه هي خدعة أبو مازن. تعداد الفلسطينيين بالداخل، مضافا إليهم الفلسطينيين بالقطاع والضفة – الذين أخذهم بيبي لتوه – سيشكل أغلبية أمام تعداد اليهود بالداخل. هذا لا يعني شيئا إلا تحرير فلسطين من النهر إلى البحر. لم ينتبه أحد إلى هذا في حينها. سكر اليهود بنشوة الأراضي التي أصبحت – لأول مرة – من حقهم، شرعيا وقانونيا وبكل المستندات المطلوبة.
اتفق الطرفان أخيراً على وضع نهاية للصراع الدامي، ولكن عقبة صغيرة قد تبقت. ماذا سيكون اسم الدولة الجديدة، إسرائيل أم فلسطين أم اسم آخر؟ في هذا الوقت كان العالم قد أصبح شديد الإيمان بعدالة القضية الفلسطينية، وأينما تسير في أي مكان في العالم كنت تجد مظاهرة مؤيدة للفلسطينيين ومنددة بسلوكيات إسرائيل، في شوارع العالم العربي مثلما في القرى الأفريقية البعيدة، في الأرجنتين مثلما في نيبال. حتى في الأسكا. انتشرت صورة كبيرة لمجموعة من البطاريق تقف صفا واحدا وخلفها معلق ملصق مكتوب عليه "آي هيت إزرايل". مع كل هذا، مع اندلاع الثورات العربية في كل مكان حول إسرائيل، وشعور الإسرائيليين المتزايد بالخوف والخطر، لم تعد مجموعات الضغط اليهودية قادرة على الصمود أمام العالم كله. رضخت إسرائيل للطلب المتزايد بأن يكون اسم الدولة الجديدة هو "فلسطين".
ولكن اليهود ليسوا أغبياء. أعلن معهد "الخطر الديمغرافي الأكاديمي" الواقع في يافا عن الخطر الكامن في أن تصبح هناك دولة اسمها فلسطين تسكنها غالبية عربية وأن يختفي اسم "إسرائيل" للأبد. خرج من هناك البروفيسور نحميئيل ليفوفيتس بنتيجة مفادها إن العرب سيتحولون في غضون ستة أعوام إلى أغلبية كاسحة. كتب مقالة حزينة يندب فيها حلم إقامة دولة يهودية الذي انتهى أمام تعقيدات الواقع. هاجت جميع الصحف الدينية، وتصدرت أغلفتها عناوين "نهاية اليهودية"، "الشتات اليهودي يعود"، و"باي باي موسى". تلقفت السلطات الإسرائيلية هذه الحملة وبدأت تستعملها كورقة ضغط أمام المفاوض الفلسطيني:
- أنتم تريدون إطلاق اسم فلسطين على دولتنا. وسيحدث هذا، أوكي، ولكن هذا لن يحدث بدون شروط.
- وما الشروط عزيزي المفاوض الإسرائيلي؟
- يا عزيزي المفاوض الفلسطيني، الشروط ليست مستحيلة. نحن سنتوقف بهذه الحالة عن أن نكون إسرائيليين، وسنتوقف عن أن نكون صهيونيين، فليس هناك أقل من أن تتركونا يهوداً. سوف نضيف في الدستور الفلسطيني مادة تقول بأنه على أي حاكم يحكم هذه البلاد مستقبلا أن يحافظ على الطابع اليهودي لها. فلسطين هي دولة يهودية تقطنها غالبية عربية، وعلى الجميع الحفاظ على هذا.
- الطابع اليهودي؟ الطابع اليهودي؟ هممممم. وماله؟ نحن لسنا ضد اليهودية باي شكل. الإسلام يقول موسى نبي وعيسى نبي ومحمد نبي. هذا هو إسلامنا. في الواقع، فأنتم تتيحون لنا بهذا أن نكون مسلمين جيدين.
- شكرا عزيزي المفاوض الفلسطيني.
- عفواً عزيزي المفاوض الإسرائيلي.
وهكذا نشأت دولة فلسطين لأول مرة في التاريخ. دولة قوية، واسعة، ذات أغلبية عربية ولها طابع يهودي يتحتم الحفاظ عليه. بناء على هذا، لم يختلف علم فلسطين تقريباً عن علم إسرائيل: نجمة داود عملاقة، مع إضافة شمعدانات يهودية كأيقونات بصرية صغيرة مزروعة في خلفية العلم.
***
على مدار العقود التالية تحول اسم فلسطين إلى أيقونة، أيقونة شعب عاش تحت الاحتلال عقوداً طويلة واستطاع التخلص منه وبناء دولته بعد هزيمة الاحتلال. أيقونة دولة ديمقراطية، علمانية، تختار أغلبيتها العربية رؤساء حكوماتها بكل حرية، ولكنها مع هذا ترضى عن طيب خاطر بأن يكون طابع الدولة هو الطابع اليهودي. "لا شيء في فلسطين ضد الدين"، هكذا أعلنت الملصقات السياحية لفلسطين.
واليهود، ماذا عن اليهود الذين يبلغ تعدادهم الآن في فلسطين ثلاثة ملايين نسمة، بعد هجرة الكثيرين والكثيرين من الدولة الجديدة؟ إنهم يعيشون بسعادة داخل فلسطين، يعيشون داخل دولتهم التي لا تزال يهودية. ولكن شيئاً ما يحدث. كثير من اليهود، سواء حبا في الترقي الاجتماعي أو عن اقتناع، بدأوا يدخلون في الإسلام، وكثيرون آخرون بدأوا يهاجرون إلى دول أخرى أكثر تقدماً. بعد خمسة عقود لم تتبق إلا أسرة يهودية واحدة. أسرة البروفيسور نحميئيل ليفوفيتس، ذلك الذي كان قد حذر سابقاً من الخطر الديمغرافي العربي. لم يرض البروفيسور، ذو الميول المتدينة العظيمة، الهجرة من أرض الميعاد، وبالطبع لم يقبل التحول إلى الإسلام، وبالرغم من أنه كان هو من اقترح النص في الدستور الفلسطيني على أن يتم الحفاظ على الطابع اليهودي للدولة، إلا أنه شعر بعدم القدرة على التكيف. لقد ظل –ببساطة - يشعر بالحنين إلى أصدقائه. في الواقع فلقد كان بيت البروفيسور طول هذه الفترة مهجوراً، بعد أن غادره جيرانه وأقربائه وأصدقائه، ظل البيت وحيدا كورقة شجر مسكينة ترفرف بوهن في الهواء. داخله كان البروفيسور يدرس ويقرأ في أمور الشريعة اليهودية، يحافظ على السبت، يربى ابنتيه لتصبحا يهوديتين صالحتين، ولكن قلبه كان مكسوراً.
ذروة الحدث كان عندما رجع البروفيسور ذات سبت من المعبد. تعثر قرب بيته فتوسخت ثيابه بوحل الطريق. عندما وصل البيت نادى ابنتيه، سارة ودينا، وأخبرهما برغبته الحاسمة في المغادرة للأبد: "أنا حاولت. حاولت وحاولت وفشلت. الرب لم يكن راضياً عني. الرب وضع في طريقي طوبة لأتعثر بها، وعندما سقطت توسخت شراشيب ثيابي في الطين، كأن الرب كان يشير لي على الطريق الذي ينبغي علي أن أسلكه. أرض الميعاد ليست فلسطين".
- لكن يا بابا..
- ليس هناك لكن، مالكنش، أرض الميعاد هي الأرض التي يشعر فيها اليهود أنهم مبسوطون. وأنا لست مبسوطاً. الجمعة القادمة سنكون في نيودلهي عند أعمامكم. سنقضي السبت في معبد نيودلهي.
وافقت البنتان بعد بكاء كثير. في يوم الخميس التالي كان البروفيسور نحميئيل ليفوفيتس وابنتاه قد غادروا مطار القدس الدولي. وسجلوا بمغادرتهم رحيل آخر اليهود عن فلسطين. الآن فلسطين دولة تضم الجميع، مسلمين ومسيحيين ودروزاً، سنة وشيعة، إنجيليين وأرثوذكس وموارنة. دولة تضم الجميع ولكن بلا يهودي واحد. الجميع عرب في فلسطين الجديدة.
***
يمكن القول إن يوم رحيل البروفيسور من فلسطين كان يوماً مفجعاً بالنسبة للفلسطينيين. بحث الجميع عنه في كل مكان. تساءل جيرانه أين ذهب، أصيب مراهق في المدرسة بصدمة عصبية. المراهق كان عالقاً في قصة حب درامية مع ابنة البروفيسور. توقف عن الطعام والشراب ليومين كاملين، وامتنع عن دخول الامتحانات، وبعدها بشهرين مات، هكذا، انتحر. قبل انتحاره كان قد ترك قصاصة صغيرة مكتوب عليها: "البروفيسورهو الوحيد الذي أثبت أن هذه الأرض بإمكانها احتواء الجميع، الآن لم يعد بإمكانها احتواء الجميع"، بجانب قصة حبه اليائسة، فقد كان هذا هو الهم الأكبر للفلسطينيين. دولتنا لم تعد الدولة المثالية التي يتجاور فيها الجميع. في الجلسة التالية للمجلس التشريعي الفلسطيني وقف نائب برلماني وتساءل بسخرية كيف تكون هناك دولة ذات طابع يهودي ولا يقطنها يهودي واحد. صرخ بعنف: " يا إما تشيلولنا أم المادة دي من الدستور يا إما توفرولنا اليهود".
خرجت الصحف طبعاً لتندد بهذا النائب ذي الميول القومية المتطرفة. استشارت الصحف جميع علماء القانون في فلسطين وأفتوا كلهم فتوى شبه موحدة: "الدولة كيان اعتباري، الدولة غير أفراد الدولة. فرنسا مثلا علمانية، على الرغم من أن غالبية سكانها كاثوليك. تركيا علمانية وسكانها مسلمون. دولتنا هنا يهودية ومواطنها جميعهم عرب. فين المشكلة يعني"؟
ولأنه لم تكن هناك مشكلة، فقد وافق المجلس التشريعي بالإجماع على بقاء الطابع الرسمي لدولة فلسطين هو الطابع اليهودي. حدث هذا في محاولة للتكفير عن ذنب خروج البروفيسور من فلسطين. لقد حاول الفلسطينيون ترميم تلك الصدمة العظيمة في ضميرهم، كيف غادر رجل عجوز في التسعين من عمره، مع ابنتيه الوحيدتين، من بلادنا بدون أن يعلم أحد عنه شيئاً؟ بالإضافة إلى عقدة تقنية: لم يكن بالإمكان تغيير تلك المادة من الدستور التي تنص على أن فلسطين دولة ذات طابع يهودي صميم. المادة كانت مكتوبة بصراحة ، وتغييرها كان يعني طعن الأساس القانوني الذي قامت عليه دولة فلسطين.
***
الآن في فلسطين، التي تضم عشرة ملايين نسمة كلهم من العرب، يتم تدريس العبرية والييدشية في المدارس، العبرية هي لغة الدولة، تتم كتابة المعاملات الرسمية كلها بها، يتعلم كل الأطفال التوراة قبل دراستهم القرآن والأناجيل، توقد الشموع قبل كل سبت في المعابد الخاوية. تاريخ اليهود يصبح هو التاريخ الرسمي لدولة فلسطين، علاقات فلسطين بالدول العربية تسوء أكثر فأكثر، يتم تجنيد المزيد من الفلسطينيين للدخول في جيش الدفاع، ويتم إرسالهم في عمليات بلبنان والأردن ومصر وسوريا. الأفراد لم يكونوا مهمين في هذه الحالة. الدول، ككيانات اعتبارية، كدول لها طوابع مختلفة، يهودية وعربية، كانت تتحارب.
حاول بعض الفلسطينيين الخروج من هذا المأزق، مأزق الطابع اليهودي، ولكن هذا كان مستحيلاً، في مقابلهم كان هناك المؤمنون عن قناعة بالدستور كما هو، بوصفه دليلاً على النزاهة والفصل بين الدولة اليهودية والأفراد العرب. كل شهر كان يتم إرسال أسئلة للحاخام نحميئيل ليفوفيتس، كانت الدولة الفلسطينية تستفسر منه عن أمور متعلقة بالشريعة اليهودية، وبحدود الحرام والحلال في دولة محكومة بالطابع اليهودي. كان ليفوفيتس يرد بردود عاطفية غالباً، تدل على حنينه للدولة الوحيدة التي تقوم بتطبيق الشريعة اليهودية، على الرغم من عدم وجود يهودي واحد فيها.
قال الحاخام نحميئيل ليفوفيتس في إحدى رسائله: "أعرف معاناتكم أعزائي الفلسطينيين، أنتم تعرفون أنه لا يمكن لأي شخص الدخول في اليهودية. تعرفون أن هذا أمر صعب جداً، مستحيل بالأحرى، ولذا أقدر رغبتكم الشديدة في أن تصبحوا يهوداً، وعجزكم عن هذا في الوقت نفسه. أقدر قلوبكم الذهبية، ولكن هذا لا يكفي، وأنتم لا تستطيعون فعل ما يكفي. لذا أقول لكم، رجاء، عشان خاطري، والنبي، توقفوا عن هذا الهبل. الغوا المادة اياها من الدستور، فمهما فعلتم لن يبارككم الرب. إذن عيشوا مستريحين وريحوني". تم نشر الرد في الصحافة، ونشرت الصحيفة في افتتاحيتها رداً عليه يقول: "يبدو أن السيد ليفوفيتس يعتقد أننا نفعل هذا رغما عنا. القصة إننا شعب يقدر التزاماته، نحن، كشعب، لا نخرق معاهداتنا مهما حصل، نقول لك يا سيد ليفوفيتس: مهما فعلت، مهما أوحيت لنا، فنحن لن نتخلى عن الطابع اليهودي لبلدنا".
كان الفلسطينيون على صواب هذه المرة، عندما نتأمل القصة من بعيد، فبولاء أبناء فلسطين المطلق لدولتهم، وبتفضيلهم مصلحة الوطن على أية اعتبارات شخصية أو اجتماعية، وبالتزام أبناء الدولة المطلق بالدستور، أصبحت فلسطين هي أقوى دولة في الشرق الأوسط. وكانت هذه هي قصة المعجزة الفلسطينية