كتب عبد الناصر يوماً، كما نعرف، أن هناك
ثلاث دوائر تنتمي لها مصر، الدائرة العربية والأفريقية والإسلامية. هكذا كتب،
والله أعلم بما كان يقصده. شخصياً، أشك كثيرا في حضور الدائرة الأفريقية في أذهان
الخطاب المصري العام في الستينيات، ولكن على العموم، أهل الستينيات أدرى بشعابهم.
هل تغير شيء الآن؟ بالتأكيد. انتهت هويات وصحت هويات. اندثرت عدة هويات، واخترقت
الرأس المصري هويات أخرى، وتغيرت أشكال الهويات عن مثيلاتها أيام الستينيات. من
يعتقد مثلا أن الانتماء العروبي أيام عبد الناصر هو نفسه الانتماء العروبي أيامنا،
أو أن الانتماء الإسلامي، المرتبط أكثر وقتها بطلبة الأزهر الأسيويين ودول العالم
الثالث، هو نفسه الانتماء الإسلامي أيامنا؟ لا شيء يبقى على حاله. الأيام تغيرنا.
وبعد، فهذه محاولة لحصر الهويات التي تخترق
الجسد المصري كما تبدو من أفكار الخطاب العام السائد الآن. أحيانا ما تتصارع
الهويات، أحيانا ما ترتبط ببعضها، أحيانا ما تبدو غير واعية بما يميزها عن غيرها،
ولكن في كل الأحوال، لا غنى عن التمييز، ولو كان مجرداً تماماً، بينها وبين بعضها.
الهوية الإسلامية: هوية – على العكس من اسمها – لا ترتبط بالإسلام
وبتعليماته في حد ذاته – وإنما ترتبط بالمسلمين. أينما أهين المسلمون في أي منطقة
في العالم فالتعاطف معهم واجب، من يوغوسلافيا وحتى بورما ومن فلسطين وحتى العراق،
من الشيشان المحاربين ضد الروس وحتى الأفغان المحاربين ضد الأمريكان، من مفجري
الكنائس المحاربين ضد المسيحيين، وحتى المرشحين الإسلاميين المحاربين ضد المرشحين
المسلمين غير الإسلاميين. لا شيء إسلامياً هنا، لا شيء أخلاقياً، لا شيء إلا
الدفاع عن إخوتي في الدين، والرد على افتراءات أمريكا حول الإرهاب، وعلى افتراءات
الأقباط حول اضطهادهم. يقولون إنهم مضطهدون، إذن أغرقهم مشاهد اضطهاد للمسلمين على
يد الأديان الأخرى. هذه هي ساحة المعركة. الأكثر اضطهادا سيأخذ بونبوناية في آخر
الحصة. تقول أمريكا: "المسلمون يحاربون العالم"، وترد الهوية الإسلامية:
"العالم يحارب المسلمين". فرق كبير. ها؟ جدير بالذكر أن الهوية
الإسلامية في مصر تبدو أحياناً وكأنها تحاول عامدة الخروج من مركزية الصراع
الفلسطيني الإسرائيلي، لأن هذا الصراع احتكرته الهوية العربية منذ زمان طويل،
وتحاول إيجاد أعداء لها بعيدين عن البؤرة الفلسطينية، تفتعل معركة مثلا مع
"المد الشيعي"، تبدو أقل حماساً لحزب الله الشيعي في صراعه ضد إسرائيل.
الهوية الإسلامية تحاول البحث عن دور مختلف في بلد أخذ كل خطاب فيها دوره وتمركز
فيه.
الهوية العربية: غلبانة جداً. لا شيء يحميها غير خطاب مهلهل ظل يحارب
دفاعا عن وجوده في العقود الماضية ثم انتهى إلى اللاشيء، لا تمثيل له في السلطة،
لا وجود له في الوعي الجمعي. خطاب ليس محوره فقط "نحنا والعرب جيران"،
وإنما "نحن والعرب هيتّة واهِد. الشكل هو هو، والدم هو الدم". الهوية
العربية أيضاً لا تحارب ضد شيء ماعداً إسرائيل وأمريكا، لا فقر في البلاد العربية،
لا بطالة، لا عنوسة، لا مجاري، لا شيء إلا إسرائيل وأمريكا، وأعوانهما من القوميات
غير العربية التي تسكن في البلاد العربية، الأمازيغ والأكراد نموذجاً. وبرغم أن
المرء يولد عربياً وفق هذا الخطاب، أي أنه منذ وجوده في بطن أمه وهو يشعر بالحنين
للكوفة وحيفا ودمشق والقدس (انتبه، شمال أفريقيا غير موجودة)، إلا أن تحقق هذا
الشعور ارتبط فقط بفترة الستينيات. تأمل كم الحنين الذي تشعر به عندما تسمع جملة
صلاح جاهين/ عبد الحليم حافظ في أغنيتهما "المسئولية": "أحلف بكل
صبي وصبية، بعيونهم الحلوة العربية"، لا يمكننا أيضاً نسيان انتعاشة الهوية
العربية في التسعينيات على يد السيناريت وكاتب الأغاني مدحت العدل، حيث دوما ما
تظهر في صراعات أبطاله فكرة محورية مفادها أن العرب لو اتحدوا فسيتمكنون من
الانتصار على عدوهم، وهو إسرائيل دائماً، (وليس أمريكا حتى)، إسرائيل الممثلة في
نجمة داود التي تظهر فجأة على شاشة كمبيوتر الأشرار (مافيا)، أو في يهودي شرير
اسمه "يودا" يسعى للإيقاع بالبطل الطيب (همام في أمستردام). بعد انتشار
كليب "الحلم العربي"، الذي ألفه العدل ولحنه حميد الشاعري وقال مطلعه:
"أجيال ورا أجيال، هتعيش على حلمنا"، وغناه مطربون من كافة أنحاء الوطن
العربي، استضاف أحد برامج التليفزون المصري مدحت العدل، قالت له المذيعة إن الرئيس
مبارك دائما ما يدعو للسلام والتصالح. اعتبر مدحت العدل هذه المداخلة من المذيعة
معادية لفكرة الهوية العربية، فقال لها مستدركا إن الرئيس مبارك أيضاً دائما ما
يدعو للوحدة العربية. هكذا. استغل الطرفان الرئيس مبارك كأيقونة للتأكيد على فكرة
الهوية العربية أو لدحضها.
الهوية المصرية: التذاكي في أقصى صوره. نحن لسنا مسلمين بالأساس، نحن
لسنا عرباً بالأساس. (قد يكون بعضنا مسلما وبعضنا عربياً، عادي) ولكن علينا أن
نرمي وراء ظهورنا تخلف الهويتين العربية والإسلامية، ونفكر في الهوية المصرية
المتقدمة. مصر يا أول نور في الدنيا شق
ضلام الليل، احسبي عمر الخير في الدنيا يطلع عمر النيل. نحن أهل الزراعة
والنهر والحضارة ومن حولنا بدو متخلفون. مصطلح "البدو" الذي طالما
حيّرني يعني عدة أشياء: أولا الخلايجة الذين علمهم المصريون في إطار هجرة الأخيرين
للتدريس ببلاد الخليج، ثانيهم اليهود، راجع النقاش الساخن حول فيلم "المهاجر" ليوسف شاهين، وكيف
استنكر المثقفون أن يأتي واحد من أهل الرعي "إسرائيلي، النبي يوسف"،
ليعلم المصريين الزراعة، وثالثهم العرب كلهم، بمن فيهم من ليسوا بدواً، هو كدا،
غباوة! ملحوظة أخيرة: الهوية المصرية ليست منغلقة تماماً، هي أصلاً جاءت للرد على
شيوع الهوية الإسلامية، التي جاءت بدورها ردا على تهمة الإرهاب الإسلامي، ولكن لا
شيء مصرياً في الهوية المصرية، لا شيء مخلص لمصر. في أغلب الأحوال فهذه الهوية
المصرية المتذاكية هي تطور للهوية المتوسطية لمصر التي نادى بها مثقفون كبار في
منتصف القرن الماضي. سنتفق أنا وأنت على أننا نحب الهوية المصرية التي لا تنتمي
لشيء خارجها، ولكنني، أنا وأنت، نعلم أن امتداد مصر الذي نتمناه هو في شمال البحر
المتوسط وأوروبا. شقتنا بحري وليست قبلي.
الهوية الشرقية: الصياعة المطلقة. تنتمي "الهوية الشرقية" لا
إلى النخبة كالثلاث هويات الأولى، وإنما إلى "رجل" الشارع الحقيقي،
مجتمع الطبقة الوسطى وما أدناه. لا شيء دينياً في هذه الهوية، وإنما هناك شيء
أخلاقي صارم أحيانا ومتلاعب أحياناً أخرى. "احنا ف مجتمع شرقي"، هي
الجملة المفتاح. المجتمع الشرقي مهووس بالحد من العلاقات الجنسية، خاصة إذا تعلق
الأمر بعلاقات المرأة الجنسية، ليس بالأخص، فقط، فقط إذا تعلق الأمر بعلاقات
المرأة الجنسية، لأن المجتمع الشرقي يعني أيضاً، فيما يعني، حرية الذكر المطلقة.
على حد علمي، لم أر أماً تلوم ابنها العطاط باستخدام حجة: "احنا ف مجتمع شرقي
يابني. الناس هتقول علينا إيه". لا. المجتمع الشرقي ضد الجنس إذا ما تعلق فقط
بالمرأة. المجتمع الشرقي بالمناسبة مجتمع علماني، لا علاقة له بصلاة أو صوم أو دعم
الإسلاميين في الانتخابات. المجتمع الشرقي يحشش ويسكر ويسرق، وشرقيته تنحصر في
انحيازه للذكر بشكل واضح. "انا راجل شرقي"، تعني في الغالب معنى واحد:
"من حقي اغير. ومن حقي افشخ البت اللي معايا عشان باغير. وهي هتنبسط اني
باغير عليها لإن الستات عاوزين كدا، ولو هي فكرت تعمل زي ما انا بعمل يبقى ماينفعش
عشان احنا ف مجتمع شرقي". في الغالب، يستخدم الرجل تعبير: "انا راجل
شرقي"، لتصوره إنها تزيد من جاذبيته، أحمد السقا نموذجاً للفحولة الشرقية
الأخلاقية الذكورية الجذابة. المجتمع الشرقي هو جنة الذكور.
هناك فارق نوعي كما قلنا بين الهويات الثلاث
الأولى والهوية الأخيرة، الشرقية، وعلى الغالب، ففيما تبدو الهويات الثلاث الأولى
نخبوية تماماً ومشغولة بالرد على سؤال: "أين تقع مصر"، فإن الهوية
الأخيرة ترد بإجابة فريد شوقي، وهو رمز آخر للذكورة المصرية العنيفة والجذابة والقادمة
من أسفل المجتمع، وهو يقوم بدور السلطان المزعوم لسلطنة بورنجا: "والله هي
لسة ماوقعتش، بس مسيرها تقع بإذن الله".
____________________
نُشر في موقع "البديل" الإلكتروني بتاريخ 26 أغسطس 2012