للإسلامبولي، قاتل الفرعون، القزم، الخائن أنور السادات:
بهذه الكلمات يهدي أحمد فؤاد نجم واحدة من أهم قصائده إلى الإسلامبولي، قصيدة يصدرها ب"منين أجيب ناس لمعناة الكلام عارفين". وتقريبا فكل مقطع من مقاطع القصيدة ينتهي ب"العارفين". كان العارفون واحدا من أسس القصيدة، كان نجم يرثي حالهم، أو يوبخهم، أو ينتصر لهم، ولكن الأساس المتين للقصيدة، كما يبدو من الإهداء، هو البطل، القاتل، الراقص، الفتي، المتطهر من الزمن، الصحابي والقديس، خالد الإسلامبولي.
لسنوات طويلة فتنتني هذه القصيدة، ولازالت تفعل. وبالمفهوم الذي تناقشنا حوله الأسبوع الماضي، فقد كانت هي الأكثر بلاغة، مجازات بعد مجازات بعد مجازات، يا دين أمي، نجم هو صانع الكيتش الأكثر حرفنة لليسار المصري. وبعيدا عن التعليقات المتشنجة، فأن يكون المرء صانعا محترفا للكيتش، لهو أمر يستحق الاحترام، وطبعا لا أحتاج للتأكيد على أن حديثي هنا جاد للغاية.
***
في البداية، قبل ظهور الإسلامبولي، يكون كل شيء زي الخرا:
ركب الأغا ع البلد ركِّب عليها الخوف/ خاين قليل التنا جاهل عديم الشوف/ خان التراب والهوا خنق الضمير في الجوف/ وداس بنعل الوطا ع الحق والعارفين/ مين في البلد يا بلد كان صوته من راسه/ يحسب يكيد العدا ويصون وداد ناسه/ دار المدار بالخرس وسقانا من كاسه/ مين تحت حكم الأغا ينطق يقول عارفين
هكذا: الدنيا كلها ظلام في ظلام، تضيق البلاد والعباد بالظلم، وتضج الحناجر بالشكوى، أو "بالخرس"، والاثنان سيان. وفجأة يظهر خالد. من أين وإلى أين لا أحد يعرف. كفارس أتي من المريخ ليصلح الأرض ثم يعود إلى وطنه يظهر، كروبن هود يحق العدل ثم يرحل وتتساءل الناس عنه من يكون يظهر، فتى بلا شبيه: "أصل الحكاية ولد فارس ولا زيه"، فتى لم ينبت في الزمن الذي ولد فيه وإنما في زمن آخر: "وكبرت برة الزمان اللي ابتلاك بينا". كبر خالد في زمان مشرق، مشمس، وليس زمن الخريف الذي خيم على مصر السبعينيات، مثلما خيم على نجم وغيره: "خالد يا ابن الربيع والأمل والشمس والزينة/ مين يا فتى أعلمك فعل الخريف فينا". خالد تنحدر جذوره من ماض آخر بعيد، أباؤه ليسوا هم أباء نجم، ولا أقرانه "خَد من بلال ندهته/ ومن النبي ضيه، ومن الحسين وقفته، في محنته وزيه/ قدم شبابه فدا والحق له عارفين". يسارنا العظيم أحيانا ما ينتقد الإسلام "بشكل جذري في أحيان قليلة وبشكل مراوغ غالبا"، ولكنه يستوحي منه رموزه الخلابة. في سعيه المحموم ليكون أكثر شعبية، وليخاطب الناس الذين يتحدث باسمهم، يتخلى اليسار قليلا عما يؤمن به، ونجم هو ملك الرموز التي يحبها الناس، ولكنه ليس ملك المنطق المتماسك، كما عرفنا من قبل.
***
ولكن خالدا، المقطوع من شجرة، والمفصول تماما عن عصره، وإنما ينتمي إلى زمن آخربعيد، يظهر له فجأة أعمام وأخوال: "هندك يا أدهم هنا أصلك وسلسالك/ والناس يا خالد هنا عمك هنا خالك." فجأة يظهر أهل لخالد، وهؤلاء الأهل هم "هنا" وليسوا في الزمن الآخر البعيد. طيب. هنا نطرح سؤالا عن مدى صدق العم نجم عندما فصل "خالدا" عن "هنا"، وجعله ينتمي ل"هناك"، لبلال والحسين والنبي، هل كان نجم صادقا بالفعل؟ هل كان واعيا بالفعل لخطورة مايفعله؟ مممممم. ربما لا، ربما لم يكن نجم بقوله "وكبرت برة الزمان اللي ابتلاك بينا" أكثر من شخص يصوب السهم نحو نفسه ليعطي كلامه المزيد من المصداقية، ولكن ساعة الجد، هو يعرف كويس اوي أنه، ومن معه، الأخيار، والآخرون هم الأشرار. خالد نشأ وتربى في الزمن الذي نشأ فيه نجم، ونجم ينتمي للناس وخالد ينتمي للناس، ونكتشف فجأة، من زلة لسان خفية، أن خالد هو بني آدم عادي، وليس صحابيا ولا قديسا، كما أراد نجم تصويره.
***
"مين يا فتي علمك لعب العصا ع الخيل/ وازاي قطفت القمر من فوق شواشي الليل/ وطبعت نجم السما بالوشم على زندك"
إطلاق النار على السادات يتحول في قصيدة نجم إلى رقصة. القتل يتحول إلى لعب مع الحب والقمر والسماء. نجوم الفلك، وليس خالد فقط، قد رقصت بالضي تتعانق يوم قتل السادات، كما يصرح نجم. في التدوينة السابقة، وفي الردود عليها، عرفنا الكثير عن تمجيد العنف، صبغه بصبغة رومانسية حالمة، جعل القتل فعلا مرادفا للحب والحرية. ودائما ما كانت الاستعراضات العسكرية، من النوع الذي قتل فيه السادات، هي ميدان واسع يلتصق فيه الفعلان، القتل والرقص، الاستعراض والسلاح، تحويل السلاح إلى مادة للمتعة، تحويل القتل إلى لعب بالعصا على الخيل. في بداية القصيدة هتف نجم ل"يا جرحي يا غنوتي"، الجرح هو الغنوة، الألم هو الفن، والقتل كذلك. تحويل الدماء إلى مشهد، إلى فن، كان دائما هو الخلطة السحرية لأيديولوجيات القرن العشرين، ونجم لم يكبر برة الزمان، ولا الزمان قد ابتلاه بينا.
قصيدة أحمد فؤاد نجم الفاتنة، والمهداة إلى خالد، هي ميدان واسع للعب النقدي الحر، للمزيكا، للتجول بها يمين وشمال ولفهم أشياء كثيرة جدا عن أشياء كثيرة جدا. حمل من هنا.