على طول الرواية، يتمنى الأراجوز الخشبي أن يتحول إلى طفل حقيقي، وعندما يتحول إلى طفل حقيقي، تنتهي الرواية.
الرواية إذن هي تاريخ تلك الرغبة، رغبة الأراجوز "بينوكيو" في أن يصبح ولدا من لحم ودم، ولأن الرغبة تعني – فيما تعني – عدم إشباعها - لأنها إن أشبعت لم تعد رغبة – فهو يظل طول الرواية على بعد خطوات فحسب من أن يتحول إلى طفل، ودائما ما يبعده شيء ما، نزقه الخاص، يمكننا تسميته، أو شقاوته، أو حبه للشر، أو عدم طاعته لوالديه. المهم، تتعطل تلك الرغبة دائما قبل إشباعها بثوان. مرة واحدة كانت كفيلة بأن تدلنا على سيناريو الانحراف. يظل بنوكيو طفلا مطيعا لمدة عام، يذاكر دروسه ويصبح أكثر الأولاد تفوقا، يطيع كلام أخته "الإنسية الزرقاء" التي تبنته، تعده بأنه سيتحول إلى طفل حقيقي غدا ، يخرج لدعوة أصدقائه لحضور الاحتفال بهذه المناسبة، يلتقي بواحد من أصدقائه يخبره بأنه في طريقه إلى بلاد اللعب (حيث تبدأ أجازات الأعياد في الأول من يناير وتنتهي في نهاية ديسمبر، وحيث لا كتب ولا مدرسين ولا مدارس). يستجيب بنوكيو للإغواء ويذهب معه إلى بلاد اللعب، ويفقد – ولكن ليس للأبد – فرصة تحوله إلى طفل حقيقي. لمرتين على الأقل تسير الأمور بتسلسل صارم كهذا، ولكن لمرات أكثر بكثير يحدث نفس السيناريو بدون الوعد بأن يصبح طفلا، وإنما مع وعود أخرى، تتصل كلها بتحقق صورة الأسرة الحقيقية التي سيلتم شملها أو بصورة الطفل الطيب الذي يساعد أباه العجوز. والانحراف يبدأ مع الخروج من البيت. الأراجوز يستجيب دائما للشيطان الذي بداخله وتبدأ، دائما خارج البيت، ما يطلق عليها "مغامرات بينوكيو".
تنتهي الرواية مع تحول بينوكيو إلى طفل حقيقي فعلا. ما الذي يمكن أن يكون مشوقا في حياة طفل حقيقي مجتهد يعمل ليصرف على أبيه العجوز؟ لا شيء. ما الذي يمكن أن يكون مشوقا في حياة أراجوز خشبي يكره المدرسين والكتب والعمل ويتورط في مغامرات مع اللصوص والأطفال الأشرار والوحوش المفترسة؟ كل شيء. لذا فالرواية لا تتنازل بسهولة عن أراجوزها وتقدم لنا طفلها الوسيم المجتهد، لا تفعل هذا إلا في الصفحتين الأخيرتين، لأن الكاتب، يعرف أنها متى قدمته لنا فقدتنا معه وفقدت اهتمامنا. ليس هذا هو كل شيء، فنحن، على طول الرواية نصير أعداء لبينوكيو، أو أعداء لرغبته في أن يصبح طفلا حقيقيا، نتعاطف معه، ولكننا نعي أن موطن قوته الوحيد يكمن في كونه أراجوزا خشبيا، شريرا، غير مطيع، نحب بينوكيو طالما أنه لا يصير يوما ما يريد.
هذه الصفة لا تتعلق برواية "بينوكيو" فحسب، وإنما بكل الأعمال القائمة على التوتر بين العقدة والحل، فبمجرد حل العقدة لم يعد للعمل معنى. هنا فقط زاد العيار قليلا وأصبح أكثر وضوحا: البطل الذي تابعناه بشغف على طول الرواية، الأرجوز الشقي، يصبح في النهاية مجرد جسد ميت من الخشب على الأرض، والطفل الحقيقي –الذي صاره الأرجوز - يرقص فرحا بجانبه. لقد مات البطل المحبوب في نهاية الرواية، وبهذا تم حل المشكلة.
اعتمدت في قراءة بينوكيو على طبعة من سلسلة "أولادنا" التي كانت "دار المعارف" تصدرها منذ سنوات. والطبعة قديمة جدا - أذكر أنني قرأت عرضا لها في مجلة سندباد التي كانت تصدر في الأربعينيات – وعلى العادة القديمة، ليست هناك أي إشارة على الغلاف للكاتب كولودي الإيطالي، ولا للمترجم العربي. فقط مكتوب "بقلم: حمد الله سلطان"، (بالبحث في جوجول عن اسم الكاتب/المترجم يتضح أنه شارك في ترجمة كتاب بعنوان "مدخل إلى دراسة الطب التجريبي عام 1944). هذا هو ما تبقى من أثر حمد الله سلطان إذن. رواية للأطفال كتبها/ ترجمها بأسلوب رائع، رشيق وخفيف الظل ومليء بالخدع والسخرية الشديدة الممزوجة بالنبرة الجادة الرهيبة. كل شيء في الكتاب هو حكمة، حتى الأكثر هزلية، كأن الأمر يتعلق بفيلم لـ"رأفت الميهي". تقول الإنسية الزرقاء لبينوكيو عندما تشاهد أنفه يطول:
"الكذب نوعان: الكذب ذو الأرجل القصيرة، والكذب ذو الأنوف الطويلة، وكذلك أنت من النوع الثاني، ذي الأنوف الطويلة".
هذه حكمة تقولها الإنسية ولا يرد عليها أحد، ولكن الأمر يتحول لسجال فكري عميق بين البومة والغراب في توصيف حالة بينوكيو الراقد أمامهما مريضا في بيت الإنسية.
واقترب الغراب من سرير المريض، وجس نبضه، ثم أنفاسه، ثم خنصر قدمه. ثم قال في صوت رهيب: "رأيي أن هذا الأرجوز قد مات وانتهى. فإن لم يكن – لسوء الحظ – قد مات، كان ذلك دليلا مؤكدا على أنه لا يزال حيا.
واقتربت البومة من سرير المريض وقالت: "أنا آسفة يا سيدي الغراب. فرأيي في هذه الحالة غير رأيك. مع كل ما لك عندي من الاحترام والتقدير، فأنت زميل عظيم، وصديق عزيز. لكنني مع ذلك أرى أن الأرجوز لا يزال حيا. فإن لم يكن – لسوء الحظ – حيا، كان ذلك دليلا مؤكدا على أنه قد مات وانتهى!"
وفي خطاب صاحب السيرك مقدما الحمار بينوكيو (كان الأرجوز قد تحول إلى حمار بعد أسبوع واحد قضاه في بلاد اللعب)، تختلط كل شيء، الأماكن بالأزمنة بالحقائق التاريخية، في خطاب علمي مهول. يقول عن حماره العنيد بينوكيو:
مع كل ذلك لم يزد إلا قسوة ووحشية، يوما بعد يوم. فلما رأيت أنا كل ذلك، فكرت في اتباع الطريقة التي اخترعها الأستاذ العظيم الدكتور "ربسوس"، فلما طبقتها عليه وجدت في جمجمته ورما، هذا وتقول كلية الطب بجامعة باريس أنه هو (أعني هذا الورم) الذي يسبب دائما تجدد نمو الشعر، كما كان السبب الحقيقي المباشر في اختراع الرقص الديني القديم.
ولأن كل شيء يتحول إلى حكمة مهولة كتلك، يصبح هناك فائض من الحكم، وتصبح هناك صعوبة متزايدة في الالتزام بها جميعا، هكذا مثلا، فأنف بينوكيو الذي يعدنا الكاتب بأن يطول عندما يكذب – وهي الصورة الأشهر عن هذه الشخصية – لا يفعل هذا دائما، يكذب بينوكيو أحيانا ولكن أنفه لا يطول. ومثلما في القصص القديمة، ألف ليلة وليلة نموذجا، فهناك فائض من الأحداث، ومعها فائض من المقولات العملاقة التي تقوم بالتنظير للأحداث _لكل حدث في حينه- بحيث يصبح من المستحيل إخضاع القصة كلها لنظام واحد. ومثل ألف ليلة وليلة أيضا، يمكنا تخمين أن الكاتب يستمتع بإعادة سرد كل الأحداث السابقة، في فقرة أو فقرتين، ليس بطريقة الراوي العربي وهو يسرد حكايته التي "لو كتبت بالإبر على آماق البصر لكانت عبرة لمن اعتبر"، وإنما على لسان الأرجوز الذي ينهنه وهو يحكي، وتختلط في ذهنه الأشخاص والأحداث والتواريخ، ودوما ما ترتبط لحظة حكايته لما مر به من أحداث بتذكره أنه لو كان طفلا مطيعا لما حدث له هذا، وينسى شخصيات وينسى أحداثا لولاها لما أصبحت الأحداث التالية مفهومة، يمكننا القول أنه هذيان مشوش ومتقطع، خطاب لا يدعي أنه يحاكي الحقيقة، كما حاول الراوي العربي محاكاتها، أو، على الأقل لا يدعي هذا أمامنا، فنحن – القراء – نعرف الحكاية التي يحاول بينوكيو استعادتها كاملة. يقول وهو يبكي أمام أبيه جيبتو، وهو النجار الذي صنعه:
ولقد قال لي الصرصور المتكلم: "إن هذا الدرس نافع لك، لأنك شرير وتستحق ذلك!"، فقلت له: "حاذر، أيها الصرصور!" فقال: "إنك أرجوز ورأسك من خشب!" وحينئذ رميت عليه القدوم فمات، لكنه هو المخطئ، لأنني لم أرد قتله. والدليل على ذلك أنني وضعت المقلاة على الكانون، لكن الكتكوت طار وهو يقول: "إلى اللقاء، وبلغ سلامي إلى الأصحاب!". وكنت في كل لحظة أزداد جوعا. وهذا هو السبب في أن الرجل العجوز ذا الطاقية فوق رأسه أطل من الشباك وقال: "قف تحت الشباك وارفع طاقيتك!" فلما وقفت اندلق على الماء كالسيل، صبه الرجل من الإبريق. وليس عارا أن أطلب كسرة من الخبز. أليس كذلك؟
ومثلما في أفلام رأفت الميهي أيضا، فبعد أحداث سريعة ومتلاحقة وكوميدية، تبرز شخصية غامضة، تنطق بحكمة ليست من هذا العالم، ثم تختفي. تعيدنا إلى المدينة التي يتشارك فيها الموتى والأحياء الوجود، كل بمنطقه، والتي أشار إليها أناس مختلفون بطرق مختلفة، مثل إليجاندرو أمينابار وخوزيه ساراماجو وبنديكت أندرسون، (هذا ينقلنا لمشكلة أخرى، كيف كان أهل العالم يتعاملون مع بنوكيو، مع وعيهم بأنه ليس "طفلا حقيقيا"؟ زملاؤه في المدرسة في البداية كانوا يسخرون منه لكونه أرجوزا ثم سرعان ما يحترمونه لتفوقه، أما الأرجوزات في المسرح فكانت ترحب به ترحيبا زائدا باعتباره أرجوزاً زميلاً، الوقت اللازم للدهشة من وجود أرجوز يتحرك بيننا هو وقت قصير للغاية، نحن نعيش في مدينة يتجاور فيها البشر والأرجوزات). يتجاور الأحياء والأموات في موضع آخر: الظهور الأول للإنسية الزرقاء – التي أضحت أخته، ثم أمه، فيما بعد - كان هكذا. بينوكيو يهرب من اللصين الذين يطاردانه، وهما بعينهما القط والثعلب اللذان نصبا عليه في مرة سابقة. يجد بيتا. يدق على بابه بهستيريا. يرفس الباب. تطل فتاة جميلة من الشباك.
شعرها أزرق ووجهها أبيض كالشمع، وقد أغمضت عينيها ووضعت على صدرها يديها، وقالت، من غير أن تحرك شفتيها، بصوت خافت واطئ كأنه يجيء من عالم آخر:
- ليس في هذا البيت أحد، إنهم جميعا قد ماتوا. فصاح بينوكيو باكيا متوسلا قال:
- ولكن ستسمحين لي على الأقل بالدخول!
- وأنا أيضا ميتة!
- ميتة؟! إذن ما الذي تفعلينه بالشباك؟
- أنتظر مجيء عربة الموتى لتحملني.
وما أن فرغت الطفلة الجميلة من كلامها حتى اختفت، وانقفل الشباك في هدوء.
تحذير أخير: الكتاب، وهو قصة للأطفال، مليء بالمواعظ الأخلاقية، يمكن تجاوزها بسهولة، ويمكن التوقف عندها بسهولة أيضا. نصيحتي الشخصية لكم: تغاضوا عنها. ولأطفالكم: تذكروا أن الأرجوز الخشبي الذي أحببتموه قد مات عندما سمع كلام بابا وماما.