Saturday, November 26, 2011

القلب ولا العقل


عزيزي القارئ:

كثيراً ما يناقشك شخص ما فيقول لك جملة: "أنا أعلم أن موقفك صحيح، ولكن موقفك مبني على حسابات القلب، وموقفي قائم على الحسابات العقلانية". فماذا تعني هذه الجملة؟ في الحقيقة فإن هذه الجملة تتردد عندما لا يكون الخلاف بين الشخصين كبيراً. ويكون لدى كل من الشخصين نفس الغاية، ولكن موقف أحدهما قائم على حسابات القلب، والموقف الآخر قائم على حسابات العقل.

هل أضفنا جديداً؟ بالطبع لا.

***


سجال "العقل والقلب"، يتردد طول الوقت. على الأقل، فإنه يبدأ في الظهور عندما يتعطل سجال "الخير والشر"، أي، عندما يتوقف من أمامك عن أن يصبح ممثلاً للشر وتتوقف أنت عن أن تصبح ممثلاً للخير. لستما عدوين من الآن فصاعداً، الجدل يدور الآن حول الوسائل، لا حول الغايات، يبدو أنكما تتشاركان نفس الغايات.

الموضوع ليس نسبياً تماماً. يخبرنا الجميع أنه لا فضل للقلب على العقل ولا فضل للعقل على القلب، أن الاثنين يتشاركان في صياغة القرار السليم، بدون تحديد من منهما يملك النصيب الأكبر. ولكن في سجال من هذا النوع، سجال قائم على الإقناع بين طرفين مختلفين، فإن الأولوية تصبح للعقل. يخبرك شخص ما بأن طريقه للوصول إلى الغاية – التي تطمح أنت أيضاً للوصول إليها – هو الطريق العقلاني، وطريقك هو العاطفي. ويسجل بذلك نقطة عليك. فهل يمكنك أن تحاججه وتقول: "أنا أعلم أن طريقك هو طريق الحسابات المنطقية، ولكن بالنسبة لي فإن ما تحركني هي المشاعر". لا يمكنك، ستخسر النقاش حتما فورما تقول ذلك. هذا كلام ربة منزل أو أب مفجوع على أطفاله. إذن، العقل هو سيد الموقف. يعترف الطرفان بذلك. قد يختلفان على تعريف الموقف العقلاني من بين موقفيهما، ولكنهما بالتأكيد سيصطلحان على إعطاء العقل النصيب الأكبر من عملية إنجاح القرار. العقل هو الورقة الرابحة.

أزيد على هذا أيضاً فأقول، أحياناً ما يكون متوقعا من سيستخدم حجة "العقل والقلب" ومن لن يستخدمها من بين الطرفين المتساجلين. في الغالب الأعم، فمن يستخدمها هو الطرف المتهم بالتخاذل. لدى طلب أبو مازن من الأمم المتحدة الاعتراف بدولة فلسطين على حدود 5 يونيو 1967، أصرت مجموعات من الفلسطينيين على أن تقام دولة فلسطين على كامل التراب الفلسطيني. في هذه الحالة، يستخدم الطرف الأول، طرف أبو مازن، حجة "العقل والقلب" أمام الطرف الثاني. عندما يتجادل علماني وإسلامي حول الأندلس مثلاً، فإن العلماني هو الذي يستخدم الحجة ضد الإسلامي: " نحن جميعا نريد أن تعود الأندلس عربية، ولكن كلامك غير عقلاني، إنه عاطفي". "لحد إمتى هانمشي ورا الشعارات والعواطف. عاوزين نحكم عقلنا شوية"، كان هو الخطاب الإعلامي الذي يبرر كامب ديفيد أمام معارضيها.

"هناك فرق بين التعاطف وبين الحسابات السياسية. نحن نتعاطف مع المتظاهرين في التحرير، ولكننا لا نستطيع المشاركة"، هذا هو خطاب الإخوان لتبرير عدم مشاركتهم في الانتفاضة التي اندلعت يوم 19 نوفمبر 2011. كل طرف يستخدم نفس الحجة في مواقف مختلفة في حياته. ليس هناك طرف يتصور نفسه عقلانياً على الدوام ولا طرف يتصور أن المشاعر تحركه على الدوام. كلنا خليط من هذا وذاك. نكون هذا حينا ثم نكون ذاك حينا آخر.

ليس الإخوان فقط من استخدموا سجالية "العقل والقلب". في الخطاب الإسلامي كله هناك مفردة أثيرة "الهوى". في سجالات "تطبيق شرع الله"، يتم استخدام "الهوى" كثيراً. العلمانيون مثلاً يؤذيهم منظر الأيدي المقطوعة للصوص. هذا الإيذاء النفسي هو "هوى"، "قلب"، "شعور شخصي قد يُحترم"، ليس أكثر من هذا، وهذا الشعورالشخصي تقف ضده الحقيقة الصلبة القائلة بأن قطع أيدي اللصوص سيقلل معدلات الجريمة. للإنصاف، فالهوى هنا يمثل القلب، المشاعر، ولكنه يمثل الميول الشخصية أيضاً: الرغبة في التفوق على الآخرين مثلا. الرغبة في محاباة الأقارب، في الإثراء على حساب الآخرين. كلها أهواء. ومقابل الهوى لا يوجد العقل. إنما يوجد كلام الله. كلام الله كان، وقت الرسالة، هو الحقيقة الموضوعية المحسوبة جيداً، والتي أحياناً ما يقف القلب ضدها. مثلما أنه كثيرا ما كانت مفردة "العلماء" تعني "المؤمنين"، فمفهوم العقل كان قريبا من مفهوم "الإيمان بالله كما وُصف في الإسلام".

أحياناً ما تتم المساجلة ضد العقل، وبشكل صريح، أحيانا ما يقف شخص ويقول "أنا ضد العقل"، ولكن الدافع هنا لا يكون أبداً هو المصلحة التي سيأتي بها الاندفاع وراء المشاعر. الدافع غريب: الملل الكامن في الحسابات العقلانية. بعد رفض صنع الله إبراهيم لجائزة المجلس الأعلى للثقافة، تم وصف تصرفه بالجنون. لم ينكر هو. قال إنه حتى لو كان تصرفه مجنونا فما المشكلة؟ لقد مللنا من حكمة الشيوخ. هذا هو معنى كلامه.

الملل من حكمة الشيوخ هو الستار الذي يختبئ خلفه مفضلو القلب على العقل. هذا مجرد ستار، ولكن الحقيقة هي أن ثمة ما بين السطور هنا. في ولا وعي كل منا يرتبط العقل بالتخاذل، أو بالدفاع عما هو سائد بشكل أدق. العقلانية هي تبرير الجبن. يعرف هذا الشجعان وأبطال الأساطير، ولكنهم عندما يضطرون لعدم التصريح بهذا، فإنه يؤكدون مللهم من حكمة الشيوخ. هكذا يمكنهم تسديد ضربة ضد العقل. العقل ممل، والمشاعر هي التي تحمل الإثارة والشباب والحيوية والتغيير.

في فيلم "ناصر 56" يعمل الصحفي مع مجموعة من قوى الثورة المضادة، إقطاعيين وباشوات قدامى، يخطط معهم لإسقاط عبد الناصر بعد إعلانه تأميم قناة السويس. ولكن بعد إعلان القوى العظمى الحرب على مصر يتغير موقفه ويساند عبد الناصر بكل قواه. يسأله أحدهم عن السبب التغير فيرد بنبرة حالمة: "المرة اللي فاتت كنت بافكر بعقلي. دلوقتي بقلبي". هكذا إذن، حقبة التخاذل والعمل لصالح القوى الرجعية هي حقبة العقل، وحقبة الاندماج في المشروع القومي الجبار هي حقبة القلب. وملاحظة أخرى: الواقفون بجانب القلب لا يبررون موقفهم، لا يدعون أن هذا هو القرار "الصحيح"، ولا أن نتائجه أفضل. هم فقط مع القلب، بدون تبريرات سوى الرغبة الملهمة في خوض المجهول. العقل هو مملكة "الصحيح" و"السليم" و"العادل" و"الحق"، والقلب هو مملكة الغامض والمثير.

***

في 1920 دارت معركة تل حي بالجليل الفلسطيني. عرب فلسطينيون هاجموا نقطة استيطان صهيونية. تزعم الجانب الصهيوني من المعركة يوسف ترومبلدور ولقى حتفه فيها. في أثناء دوران المعركة ناقشت اللجنة المؤقتة ليهود أرض إسرائيل "الوضع في الجليل الأعلى". أراد بعض القادة دعم زملائهم اليهود بأي شكل، وأراد بعضهم التخلي عنهم لأن المعركة خاسرة مقدماً، وإصدار الأمر للشباب بالانسحاب. كان بن جوريون من أنصار القتال حتى آخر نَفَس، على اعتبار "أننا إذا هربنا من أمام لصوص، فبنفس الشكل سوف نضطر قريباً لهجر ليس الجليل الأعلى فحسب وإنما كذلك أرض إسرائيل كلها"، وسانده بيرل كتسنلسون الذي قال: "من السهل في أية استراتيجية أن نبرهن مقدماً على حتمية الانهيار ومن الصعب الوعد بالنصر.. إننا نقف اليوم أمام نقاش قديم، نقاش لا تحسمه المزاعم المنطقية. هناك "بعد عملي" يزن الأمر مسبقاً يأمرنا بترك المكان بينما هناك بعد عملي آخر يصر على عدم هجر المكان حتى اللحظة الأخيرة وعندئذ يصيرغير الممكن ممكناً". هكذا تم الوقوف بقوة أمام المنطق العقلاني، وبشكل مفارق، فالعقل يخطئ، بينما الإيمان بالقلب والمشاعر هو أمر "عملي" أيضاً. العقل يصبح هنا غير عقلاني، والقلب يحقق المستحيل، القلب يصبح هو العقل. دعنا لا نعطي للحسابات العقلانية أكثر مما يجب، فهي ليست عقلانية تماماً.

***

دعونا لا ننسى أن الشعار الشهير لثورة 1968 في فرنسا "كن واقعيا.. واطلب المستحيل"، ليس بعيدا عن جدالنا هنا.