Friday, February 27, 2009

مليونير الأحياء الشعبية: ماذا حدث للهنديين


خالد يوسف هو مخرج من العيار الثقيل

عندما قدم لنا خالد يوسف رائعته "حين ميسرة" لم يدرك كيف كان العالم ينتظرها، بلهفة وشوق كان العالم يسعى للتعرف على تلك المناطق الخفية في مجتمعنا. يااااه يا خالد، كم فتحت أعيننا على قلب الوطن المجروح. بدونك لم نكن لنعرف شيئا. وظيفة الفن الأصيل في كل زمان ومكان هي أن يكشف لنا عورات المجتمع المصري، وأن يرد على السؤال الرصين، للدكتور جلال أمين، ماذا حدث للمصريين.

استمتعت اليوم الماضي بمشاهدة فيلم المخرج الإنجليزي داني بويل "ذي سلومدوج مليونير". الفيلم مبهر بجميع المقاييس، ألوان جميلة، صورة جميلة، معلومات كثيرة، ولكن للأسف، فالحلو لا يكتمل أبدا، الفيلم هو النسخة المعدلة من "حين ميسرة": العشوائيات، الفقر، التشرد الأطفالي، أقسام الشرطة، التعذيب، المخدرات، وقصة حب تنمو في الظلام. كل ما قاله المخرج بويل عن مومباي قد قاله قبله مخرجنا الأسمر ذو اللحية خالد يوسف عن القاهرة. لا شيء جديد. المصري دائما مشهور بجبروته.

طيب، أخونا الإنجليزي هو مخرج شاطر، يسوق لنفسه جيدا، ولهذا وصل إلى التمانية أوسكار، أما أخونا المصري، فلأنه مصري، ولأنه أسمر، ولأن له لحية، ولأن اسمه خالد على اسم سيف الله المسلول سيدنا خالد بن الوليد رضى الله عنه، فلقد عامله الغرب بعنصرية بالغة، على الرغم من كونه الأسبق في إنتاج فيلمه. ولكن ماذا نقول في العداء الغربي المستفحل للإسلام والمسلمين؟

برغم التشابه الكبير بينهما، فهناك بعض الأشياء التي يتفوق بها المخرج الإنجليزي على نظيره المصري. يعني مثلا الفتنة الطائفية، فالولد جمال، وهو ولد حكيم على الرغم من كونه طفل شوارع، يقرر في رصانة أنه لولا الصراع بين الله والإله راما، أي بين إله المسلمين وإله الهندوس، لما كان بيتهم اتحرق وأمه ماتت وهو إتشرد، هذه لمحة مهمة جدا نعرف منها أن الفتنة الطائفية هي شيء سيء.. سيء.. سيء.. وأنها جزء من إجابة بويل الأساسية على السؤال الذي يشغله بقوة هو أيضا: ماذا حدث للهنديين؟ خالد يوسف في المقابل صور مشهدا يبين فيه كيف أن العلاقات المحرمة بين الناس هي التي تنتج أطفال الشوارع. بفضل المشهد نعرف أن العلاقات المحرمة هي محرمة، بينما العلاقات الحلال هي حلال، المخرج الإنجليزي من جانبه نسى (أو لنقل: تناسى، لأنه غربي) أن يشير لهذا الملمح المهم.

واختلاف آخر: فبينما أراد مخرجنا المصري أن يرى الأمور بوضوح ويرى أن الفقر هو شيء مش كويس وأنه يجعل الناس تزعل من بعضها وترمي بعضها من فوق القطر، (أية حكمة)، فإن المخرج الإنجليزي رأى أنه، بالعكس، فإن الإنسان الفقير من الممكن أن يشتغل بجد ويطلع في برنامج "من سيربح المليون" ويربح المليون فعلاً، وفوق هذا، يجد البنت صاحبته التي يبحث عنها من زمان، وبالتالي فإننا نتعلم من النهاية المشوقة للفيلم أنه ماحدش يعرف أبداً الخير فين. نعرف من المخرج الإنجليزي أيضا أهمية الحب في حياتنا، فعندما تكون عندك واحدة صاحبتك فلا تتركها تضيع منك، لأنك أكيد تحبها حب حقيقي، وإذا تركتها تضيع منك فعليك أن تبحث عنها على طول الفيلم، ومن أراد شيئا بإخلاص فإن الكون يتآمر حتى يأتيه بهذا الشيء، كما يعلمنا الحكيمان الشرقيان الكبيران، أحمد السقا وباولو كويلهو.

يشترك المخرجان في أشياء كثيرة، بالإضافة لما سبق: أنهما شايفين أن العشوائيات والفقر وأطفال الشوارع هي أمور داخلة فيها أسامي كبيرة جدا، رجال أعمال ورجال سياسة وأمن دولة، وبهذا كشفوا لنا (أو لأكن أكثر تواضعا وأقل : لي) أسراراً خطيرة لم نكن لنعرفها لولا جهودهما، لأننا (لأقل: لأنني) كنت أظن أن الأسماء الكبيرة هي أسماء كبيرة، وهي تعمل أسماء كبيرة، وبفضل الفيلمين عرفت أنها تعمل أشياء أخرى أيضا، منها مثلا أنها على طول مكشرة، وعلى طول تستغل الآخرين جنسيا، وعلى طول تضربهم بالاقلام والشلاليت وعلى طول تسرح صبيانها لكي يثبتوا الناس في الشارع. الآن أقول: وداعا للجهل، وداعا لحسن النية، وداعا للقشرة.

لا أحب لهذه التدوينة أن تفهم باعتبارها هجوما على المخرج الإنجليزي وعلى تحيز لجنة الأوسكار ضد العرب والمسلمين. كل ما أردته هو بث الوعي في نفوس القراء الأعزاء بأن منتجنا المصري قد يرقى أحيانا ليكون على نفس مستوى المنتج الغربي، وأنه ليس شرطا للجودة أن يكون صاحب العمل إنجليزياً. كل ما أردت قوله هو أن بلدنا جميلة جدا... صدقوني.

Friday, February 20, 2009

سوبر موكاتي: أنا زعلان من الثقافة العربية

سوبر موكاتي لا يعنيه كثيرا أنه يتحدى العالم أجمع.

سوبر موكاتي تعنيه فقط الفكرة، وفي سبيلها يقف بصدره المفتوح يتلقى ضربات الرصاص.

سوبر موكاتي كان يسير حزينا، هذه المرة كان سوبر موكاتي مكسورا بجد.

لماذا أنت حزين يا سوبر موكاتي؟ أنا حزين على الثقافة العربية. مالها الثقافة العربية يا سوبر موكاتي؟ الثقافة العربية تتعولق. وكيف هذا يا سوبر موكاتي؟

اكتشف سوبر موكاتي ذات يوم أن موتابي الشرير قد سيطر على الثقافة العربية، وأنه قد نجح، طيلة سنوات طويلة، في اختراق جبهة المثقفين المصريين بالطبع، وهو ما جعل سوبر موكاتي يولع سيجارة من سيجارة وهو جالس في قهوة الموكاتيين، ويقرأ تحقيقا صحفيا في جريدة "موكاتاه"، يحكي كيف أن نجيب محفوظ ومحمود درويش وسميح القاسم وإدوارد سعيد وأدونيس وأهداف سويف وإلياس خوري، قد انصاعوا لأوامر موتابي الشرير وتعاملوا مع دولة إس.... وقاموا بالتطبيع معها. قرأ سوبر موكاتي التحقيق وظل يبكي وهو قاعد على القهوة. وكان يصرخ ويقول: لماذا هذا يا أحبة؟ لماذا تجبرونني على استخدام القسوة معاكم؟ لم يكن لديه شعر ليشده، فكان يستعيض عن هذا بنتف شعر شنبه وبقرقضة ضوافره. وكان جميع العابرين ينظرون إلى حالته هذا، وكانوا يعرفون السبب من قراءة مانشيتات الجريدة التي في يده، فكانوا يضربون كفا بكف وتدمع أعينهم تعاطفا مع سوبر موكاتي، الرجل الطيب الذي لم يؤذ أحداً منهم.

ولكن سوبر موكاتي هو – أيضاً - رجل المهام الجسيمة على كل حال.

وهو قادر – ساعة الجد - على أن يعدل تاريخ الكرة الأرضية كلها لتصبح أكثر اتساقا مع فكرته النبيلة، وما كان مطلوبا منه في هذه المغامرة لم يكن أقل.

لسنة كاملة ظل سوبر موكاتي يحدد الأسماء أمامه، وفي يوم ما، أرسل إلى جريدة "موكاتون إلى الأبد" إعلانا عن حفل عملاق تقيمه وزارة الموكاتاه للاحتفال بالثقافة العربية. وأعلن عن تقديم هدايا أقلام جاف لكل من الأسماء المذكورة للاحتفال بدورهم في الثقافة العربية المناضلة. وأعلن سوبر موكاتي عن أن مكان الحفل هو قاعة "الوطن" بفندق "الحياة المشرفة". وظل سوبر موكاتي يشتري قنابل. يشتري القنابل والقنابل، وكان كل يوم يعيد قراءة نفس التحقيق بجريدة "موكاتاه"، فيصبح غاضبا جدا، وبالتالي يتحول وينبت له الجناح وراء ظهره ويطير إلى فندق "الحياة المشرفة"، ويظل يلغم القاعة بالقنابل، ويوزع أنابيب البوتاجاز في أنحائها. كم كان سوبر موكاتي يشقى، يكد ويتعب من أجل الكبرياء العربي.. الله معك يا موكا.

وفي نفس الوقت الذي كان سوبر موكاتي منشغلا فيه بتلغيم القاعة، كان مشغولا أيضا بجمع كل نسخ كتب المثقفين العرب الموتى بين "قائمة الخزي" كما كان يسميها، كان يطير بالليل وينزل على المكتبات ويخطف جميع كتبهم. كان عملا شاقا بالطبع، خاصة أنه في المرحلة التالية كان يضطر لاقتحام بيوت أصدقائه من المثقفين لكي يسرق منها كتب "مثقفي العار". كان يبكي وهو يسرق، يبكي وهو يلغم القاعة – لأنه كان محبا للحياة ويكره العنف – يبكي وهو يتخيل مقتل كل هؤلاء الرموز، كان يبكي بحزن لأنهم سيموتون، ولكن بفرح، لأن التضحيات العظيمة تؤدي إلى أشياء جميلة.

ونجحت العملية.

نجحت جدا.

برؤيته الثاقبة أيقن سوبر موكاتي أنه لم يعد هناك أي كتاب من هذه الكتب، وأن أحدا لن يقرأ إدوارد سعيد أو درويش أو محفوظ بعد الآن، والأيام كانت تقترب، ومذبحة مثقفي العار تقترب في فندق "الحياة المشرفة". لم يكن ينقصه غير شيء واحد.

كان يحسب الأمر بالورقة والقلم أمامه، كان يعي جيدا أنه يقوم بتفريغ الثقافة العربية من أسماء كبيرة جدا. كان يعي هذا بقوة. ولذا فقد كان هناك فراغ لابد أن يقوم بملئه. لا تصدقوا أبدا أن سوبر موكاتي كان غير حريص على الثقافة العربية. لقد كان يخاف عليها مثل أولاده بالضبط، زياد - تانية إعدادي – ومنة الله – خامسة ابتدائي، وكان حريصا على صورتها أمام الغرب. ولذلك فقد كان عليه أن يملأ الفراغ الذي تركه رحيل هؤلاء الذين كان يظن – لوهمه الكبير – أنهم رموز مهمة.

ولهذا، وفي اليوم الذي سبق المذبحة بيوم، وبينما العد التنازلي يبدأ، أصدر سوبر موكاتي أول ديوان شعر له، كي يتمكن من سد الثغرة. كان الديوان يحمل عنوانا جذابا وشيقا: "لا تسلم عليهم". هكذا لن يعود لأي شخص حجة لكي يتجاهل الثقافة العربية. هكذا بدأ سوبر موكاتي يبرم شنبه، وتوقف عن قرقضة ضوافره

..........

وتقترب المذبحة..

تقترب جدا..

إلى اللقاء في الجزء الثاني من هذه المغامرة


Friday, February 13, 2009

ba7bk

هو يسير بجانب هي. هي تضع إم بي ثري، وتدندن معه، ولكن هذا لا يمنعها من تبادل الكلام معه، كلمات قليلة، ولكنها معبرة، مليئة بالحنية والدلع والقلق، كل منهما يخاف على الآخر

هو: (ينتهز فرصة الدلع) ممكن اقولك حاجة؟

هي: (تومئ برأسها مبتسمة له)

هو: انا باحبك.

هي: (تنظر له نظرة طويلة جدا، ومعبرة جدا، ومليئة بالحنية والدلع والقلق، كل منهما يخاف على الآخر، جدا).

***

شهر لا يحدث فيه شيء مهم. هو يسير بجانب هي، الشك يقتله.

هو: انا كنت عاوز اسألك عن حاجة؟

هي: )تومئ برأسها مبتسمة له)

هو: انا كنت قلتلك حاجة من شهر تقريبا، هو انتي كنتي سامعاني؟

هي: حاجة ايه؟

هو: انا باحبك.

هي: (تنظر له نفس النظرة، الطويلة جدا، المعبرة جدا، المليئة بالحنية والدلع والقلق جدا)

هو: (أصبح أكثر نضجا، ولا يريد أن يكرر تجربة الشهر الماضي) انتي سامعاني دلوقتي؟

هي: (تتسع ابتسامتها وهي تنظر له. عينيها حلوة بالمناسبة)

هو: "يشخر في سره"

***

على المسنجر.

هو: أنا كنت قلتلك من شهر تقريبن إني بحبك. بس انتي كنتي حاطة الإم بي ثري. وعلشان هذا أنا معرفتش اذا كنتي سمعتيني ولا لأة.

هي: (سايند أوت)

بعد نصف ساعة.

هي: (سايند إن)

هي: سوري الجهاز فصل فجأة.

هو: طب انا هبعتلك اللي قلته كابي وبيست

هي: la2 wenabi. Ektebo tani bas frnko arab

هو: ana 2ltlk mn shhrin eni ba7ebek. Hwa enti knti sm3ani?

هي: msh fahma. Eni a?

هو: انا اقصد اني باحبك.

هي: بس باحبك مش بتتكتب كدا.

هو: امال ازاي؟

هي:Ba7bk

هو: leh?

هي: keda. l2n el3rbi mfish fih E

هو: yeb2a kda mesh bttktb keda. Bttktb kda

هي: انا مش فاهماك خالص. يعني ايه يبقى كدا مش بتتكتب كدا. بتتكتب كدا؟

هو: (خيبة أمل) ماهو العربي مافيش فيه إي.

هي: العربي مفيش فيه إيه؟

هو: إي.

هي: E?

هو: ah E

هي: آه إي. يعني إيه آه إي

هو: a ah e?

هي: ah

هو: ya3ni a?

هي: a elli ya3ni a?

هو: ya3ni a a ah e?

هي: enta bttria2 3lia?

هو: la2. ana bs2al

هي: ana 6al3a delw2t. w law sm7t mtb2ash ttri2 3lia tani

هي: (سايند أوت)

هو: (سايند أوت)

كانت هذه قصة قصيرة، ولكنها معبرة، تشرح كيف تدمر الإم بي ثريهات، والفرانكو أراب، حياتنا، وكيف تعطلنا عن أن نقول لبعضها كلمات حلوة في الفالانتين داي.

Friday, February 06, 2009

أخي بينوكيو، لا تصر يوما ما تريد


على طول الرواية، يتمنى الأراجوز الخشبي أن يتحول إلى طفل حقيقي، وعندما يتحول إلى طفل حقيقي، تنتهي الرواية.

الرواية إذن هي تاريخ تلك الرغبة، رغبة الأراجوز "بينوكيو" في أن يصبح ولدا من لحم ودم، ولأن الرغبة تعني – فيما تعني – عدم إشباعها - لأنها إن أشبعت لم تعد رغبة – فهو يظل طول الرواية على بعد خطوات فحسب من أن يتحول إلى طفل، ودائما ما يبعده شيء ما، نزقه الخاص، يمكننا تسميته، أو شقاوته، أو حبه للشر، أو عدم طاعته لوالديه. المهم، تتعطل تلك الرغبة دائما قبل إشباعها بثوان. مرة واحدة كانت كفيلة بأن تدلنا على سيناريو الانحراف. يظل بنوكيو طفلا مطيعا لمدة عام، يذاكر دروسه ويصبح أكثر الأولاد تفوقا، يطيع كلام أخته "الإنسية الزرقاء" التي تبنته، تعده بأنه سيتحول إلى طفل حقيقي غدا ، يخرج لدعوة أصدقائه لحضور الاحتفال بهذه المناسبة، يلتقي بواحد من أصدقائه يخبره بأنه في طريقه إلى بلاد اللعب (حيث تبدأ أجازات الأعياد في الأول من يناير وتنتهي في نهاية ديسمبر، وحيث لا كتب ولا مدرسين ولا مدارس). يستجيب بنوكيو للإغواء ويذهب معه إلى بلاد اللعب، ويفقد – ولكن ليس للأبد – فرصة تحوله إلى طفل حقيقي. لمرتين على الأقل تسير الأمور بتسلسل صارم كهذا، ولكن لمرات أكثر بكثير يحدث نفس السيناريو بدون الوعد بأن يصبح طفلا، وإنما مع وعود أخرى، تتصل كلها بتحقق صورة الأسرة الحقيقية التي سيلتم شملها أو بصورة الطفل الطيب الذي يساعد أباه العجوز. والانحراف يبدأ مع الخروج من البيت. الأراجوز يستجيب دائما للشيطان الذي بداخله وتبدأ، دائما خارج البيت، ما يطلق عليها "مغامرات بينوكيو".

تنتهي الرواية مع تحول بينوكيو إلى طفل حقيقي فعلا. ما الذي يمكن أن يكون مشوقا في حياة طفل حقيقي مجتهد يعمل ليصرف على أبيه العجوز؟ لا شيء. ما الذي يمكن أن يكون مشوقا في حياة أراجوز خشبي يكره المدرسين والكتب والعمل ويتورط في مغامرات مع اللصوص والأطفال الأشرار والوحوش المفترسة؟ كل شيء. لذا فالرواية لا تتنازل بسهولة عن أراجوزها وتقدم لنا طفلها الوسيم المجتهد، لا تفعل هذا إلا في الصفحتين الأخيرتين، لأن الكاتب، يعرف أنها متى قدمته لنا فقدتنا معه وفقدت اهتمامنا. ليس هذا هو كل شيء، فنحن، على طول الرواية نصير أعداء لبينوكيو، أو أعداء لرغبته في أن يصبح طفلا حقيقيا، نتعاطف معه، ولكننا نعي أن موطن قوته الوحيد يكمن في كونه أراجوزا خشبيا، شريرا، غير مطيع، نحب بينوكيو طالما أنه لا يصير يوما ما يريد.

هذه الصفة لا تتعلق برواية "بينوكيو" فحسب، وإنما بكل الأعمال القائمة على التوتر بين العقدة والحل، فبمجرد حل العقدة لم يعد للعمل معنى. هنا فقط زاد العيار قليلا وأصبح أكثر وضوحا: البطل الذي تابعناه بشغف على طول الرواية، الأرجوز الشقي، يصبح في النهاية مجرد جسد ميت من الخشب على الأرض، والطفل الحقيقي –الذي صاره الأرجوز - يرقص فرحا بجانبه. لقد مات البطل المحبوب في نهاية الرواية، وبهذا تم حل المشكلة.

اعتمدت في قراءة بينوكيو على طبعة من سلسلة "أولادنا" التي كانت "دار المعارف" تصدرها منذ سنوات. والطبعة قديمة جدا - أذكر أنني قرأت عرضا لها في مجلة سندباد التي كانت تصدر في الأربعينيات – وعلى العادة القديمة، ليست هناك أي إشارة على الغلاف للكاتب كولودي الإيطالي، ولا للمترجم العربي. فقط مكتوب "بقلم: حمد الله سلطان"، (بالبحث في جوجول عن اسم الكاتب/المترجم يتضح أنه شارك في ترجمة كتاب بعنوان "مدخل إلى دراسة الطب التجريبي عام 1944). هذا هو ما تبقى من أثر حمد الله سلطان إذن. رواية للأطفال كتبها/ ترجمها بأسلوب رائع، رشيق وخفيف الظل ومليء بالخدع والسخرية الشديدة الممزوجة بالنبرة الجادة الرهيبة. كل شيء في الكتاب هو حكمة، حتى الأكثر هزلية، كأن الأمر يتعلق بفيلم لـ"رأفت الميهي". تقول الإنسية الزرقاء لبينوكيو عندما تشاهد أنفه يطول:

"الكذب نوعان: الكذب ذو الأرجل القصيرة، والكذب ذو الأنوف الطويلة، وكذلك أنت من النوع الثاني، ذي الأنوف الطويلة".

هذه حكمة تقولها الإنسية ولا يرد عليها أحد، ولكن الأمر يتحول لسجال فكري عميق بين البومة والغراب في توصيف حالة بينوكيو الراقد أمامهما مريضا في بيت الإنسية.

واقترب الغراب من سرير المريض، وجس نبضه، ثم أنفاسه، ثم خنصر قدمه. ثم قال في صوت رهيب: "رأيي أن هذا الأرجوز قد مات وانتهى. فإن لم يكن – لسوء الحظ – قد مات، كان ذلك دليلا مؤكدا على أنه لا يزال حيا.

واقتربت البومة من سرير المريض وقالت: "أنا آسفة يا سيدي الغراب. فرأيي في هذه الحالة غير رأيك. مع كل ما لك عندي من الاحترام والتقدير، فأنت زميل عظيم، وصديق عزيز. لكنني مع ذلك أرى أن الأرجوز لا يزال حيا. فإن لم يكن – لسوء الحظ – حيا، كان ذلك دليلا مؤكدا على أنه قد مات وانتهى!"

وفي خطاب صاحب السيرك مقدما الحمار بينوكيو (كان الأرجوز قد تحول إلى حمار بعد أسبوع واحد قضاه في بلاد اللعب)، تختلط كل شيء، الأماكن بالأزمنة بالحقائق التاريخية، في خطاب علمي مهول. يقول عن حماره العنيد بينوكيو:

مع كل ذلك لم يزد إلا قسوة ووحشية، يوما بعد يوم. فلما رأيت أنا كل ذلك، فكرت في اتباع الطريقة التي اخترعها الأستاذ العظيم الدكتور "ربسوس"، فلما طبقتها عليه وجدت في جمجمته ورما، هذا وتقول كلية الطب بجامعة باريس أنه هو (أعني هذا الورم) الذي يسبب دائما تجدد نمو الشعر، كما كان السبب الحقيقي المباشر في اختراع الرقص الديني القديم.

ولأن كل شيء يتحول إلى حكمة مهولة كتلك، يصبح هناك فائض من الحكم، وتصبح هناك صعوبة متزايدة في الالتزام بها جميعا، هكذا مثلا، فأنف بينوكيو الذي يعدنا الكاتب بأن يطول عندما يكذب – وهي الصورة الأشهر عن هذه الشخصية – لا يفعل هذا دائما، يكذب بينوكيو أحيانا ولكن أنفه لا يطول. ومثلما في القصص القديمة، ألف ليلة وليلة نموذجا، فهناك فائض من الأحداث، ومعها فائض من المقولات العملاقة التي تقوم بالتنظير للأحداث _لكل حدث في حينه- بحيث يصبح من المستحيل إخضاع القصة كلها لنظام واحد. ومثل ألف ليلة وليلة أيضا، يمكنا تخمين أن الكاتب يستمتع بإعادة سرد كل الأحداث السابقة، في فقرة أو فقرتين، ليس بطريقة الراوي العربي وهو يسرد حكايته التي "لو كتبت بالإبر على آماق البصر لكانت عبرة لمن اعتبر"، وإنما على لسان الأرجوز الذي ينهنه وهو يحكي، وتختلط في ذهنه الأشخاص والأحداث والتواريخ، ودوما ما ترتبط لحظة حكايته لما مر به من أحداث بتذكره أنه لو كان طفلا مطيعا لما حدث له هذا، وينسى شخصيات وينسى أحداثا لولاها لما أصبحت الأحداث التالية مفهومة، يمكننا القول أنه هذيان مشوش ومتقطع، خطاب لا يدعي أنه يحاكي الحقيقة، كما حاول الراوي العربي محاكاتها، أو، على الأقل لا يدعي هذا أمامنا، فنحن – القراء – نعرف الحكاية التي يحاول بينوكيو استعادتها كاملة. يقول وهو يبكي أمام أبيه جيبتو، وهو النجار الذي صنعه:

ولقد قال لي الصرصور المتكلم: "إن هذا الدرس نافع لك، لأنك شرير وتستحق ذلك!"، فقلت له: "حاذر، أيها الصرصور!" فقال: "إنك أرجوز ورأسك من خشب!" وحينئذ رميت عليه القدوم فمات، لكنه هو المخطئ، لأنني لم أرد قتله. والدليل على ذلك أنني وضعت المقلاة على الكانون، لكن الكتكوت طار وهو يقول: "إلى اللقاء، وبلغ سلامي إلى الأصحاب!". وكنت في كل لحظة أزداد جوعا. وهذا هو السبب في أن الرجل العجوز ذا الطاقية فوق رأسه أطل من الشباك وقال: "قف تحت الشباك وارفع طاقيتك!" فلما وقفت اندلق على الماء كالسيل، صبه الرجل من الإبريق. وليس عارا أن أطلب كسرة من الخبز. أليس كذلك؟

ومثلما في أفلام رأفت الميهي أيضا، فبعد أحداث سريعة ومتلاحقة وكوميدية، تبرز شخصية غامضة، تنطق بحكمة ليست من هذا العالم، ثم تختفي. تعيدنا إلى المدينة التي يتشارك فيها الموتى والأحياء الوجود، كل بمنطقه، والتي أشار إليها أناس مختلفون بطرق مختلفة، مثل إليجاندرو أمينابار وخوزيه ساراماجو وبنديكت أندرسون، (هذا ينقلنا لمشكلة أخرى، كيف كان أهل العالم يتعاملون مع بنوكيو، مع وعيهم بأنه ليس "طفلا حقيقيا"؟ زملاؤه في المدرسة في البداية كانوا يسخرون منه لكونه أرجوزا ثم سرعان ما يحترمونه لتفوقه، أما الأرجوزات في المسرح فكانت ترحب به ترحيبا زائدا باعتباره أرجوزاً زميلاً، الوقت اللازم للدهشة من وجود أرجوز يتحرك بيننا هو وقت قصير للغاية، نحن نعيش في مدينة يتجاور فيها البشر والأرجوزات). يتجاور الأحياء والأموات في موضع آخر: الظهور الأول للإنسية الزرقاء – التي أضحت أخته، ثم أمه، فيما بعد - كان هكذا. بينوكيو يهرب من اللصين الذين يطاردانه، وهما بعينهما القط والثعلب اللذان نصبا عليه في مرة سابقة. يجد بيتا. يدق على بابه بهستيريا. يرفس الباب. تطل فتاة جميلة من الشباك.

شعرها أزرق ووجهها أبيض كالشمع، وقد أغمضت عينيها ووضعت على صدرها يديها، وقالت، من غير أن تحرك شفتيها، بصوت خافت واطئ كأنه يجيء من عالم آخر:

- ليس في هذا البيت أحد، إنهم جميعا قد ماتوا. فصاح بينوكيو باكيا متوسلا قال:

- ولكن ستسمحين لي على الأقل بالدخول!

- وأنا أيضا ميتة!

- ميتة؟! إذن ما الذي تفعلينه بالشباك؟

- أنتظر مجيء عربة الموتى لتحملني.

وما أن فرغت الطفلة الجميلة من كلامها حتى اختفت، وانقفل الشباك في هدوء.

تحذير أخير: الكتاب، وهو قصة للأطفال، مليء بالمواعظ الأخلاقية، يمكن تجاوزها بسهولة، ويمكن التوقف عندها بسهولة أيضا. نصيحتي الشخصية لكم: تغاضوا عنها. ولأطفالكم: تذكروا أن الأرجوز الخشبي الذي أحببتموه قد مات عندما سمع كلام بابا وماما.