Friday, January 30, 2009

ماذا يعرف الإسرائيليون عن حروبهم؟

عكيفا إلدار

عن هاآرتس

الأغلبية الساحقة من اليهود في إسرائيل لا يعرفون تفاصيل جوهرية عن الصراع مع الفلسطينيين (لماذا رفض العرب خطة التقسيم؟) وهم غير معنيين بالأرقام _( كم شخصا قتل في غزة منذ الانفصال؟) ويفضلون استهلاك المعلومات التي تقدم لهم في الإعلام المملوك بيد السياسيين. مع معطيات كتلك، يتساءل عالم النفس السياسي البروفيسور دانيال بار تال: ما العجب في أن يحظى "الرصاص المصبوب" بكل هذا التأييد الواسع؟

دانيال بار تال، من أبرز المتخصصين في علم النفس السياسي بالعالم، يعاني هذه الأيام من اكتئاب ما بعد الولادة. بالتزامن مع الحرب في غزة، ينشر دراسة رائدة شارك في إعداده مع الدكتور رافي نيتس تسنجوت، الدراسة تهتم بالذكريات التي يحملها الجمهور اليهودي في إسرائيل عن الصراع مع العرب، منذ بدايته وحتى اليوم. التأييد الكاسح لعملية "الرصاص المصبوب"، قام بالتصديق على الملاحظة الأساسية التي يطرحها البحث، في رأي بار تال: "يسيطر على وعي اليهود في إسرائيل الإحساس بكونهم ضحايا، ذهنية الحصار، الوطنية العمياء، الاعتماد على القوة، الرياء، عدم الإحساس والبلادة تجاه معاناة الفلسطينيين ومحاولة سلبهم إنسانيتهم. الحرب في غزة أذابت القليل من الأمل الذي كان لدى بار تال، في أن يستبدل الجمهور دفوف الحرب بهديل الحمام.

يقول البروفيسور في جامعة تل أبيب: "غالبية الشعب تحتفظ بذاكرة جمعية مبسطة عن الصراع، هذه الذاكرة ترسمنا بشكل إيجابي جدا وترسم العربي بشكل سلبي للغاية". هذه الذاكرة، مع شكل الصراع والأحاسيس الجمعية مثل الخوف والكراهية والغضب، تتحول إلى بنية تحتية نفسية وثقافية تنغمس عبرها الشعوب في صراعات عنيفة طويلة. يزعم بار تال أنه في واقع كهذا، يصعب حتى تخيل احتمال أن يتمكن الشعبان من التغلب على العقبات النفسية، بدون مساعدة من الخارج.

يميز الباحثون بين نوعين من الذاكرة الجمعية: الشعبية – الشكل الذي يتمثل به الجمهور الواسع الماضي، والرسمية – تلك التي تتبناها مؤسسات الدولة في المطبوعات والكتب والكتب التعليمية. فكرة دراسة الذاكرة الجمعية الشعبية في إسرائيل طرحها نيتس تسنجوت، وهو محام تل أبيبي عاد إلى مقاعد الدراسة. حيث يكمل هذه الأيام رسالة الدكتوراه الخاصة به في مركز دراسات الصراع بـ Teachers College في جامعة كولومبيا، وتهتم رسالته بالبنية التحتية للذاكرة الجمعية الرسمية في إسرائيل، بالنظر إلى تكون مشكلة اللاجئين في 1948.

بار تال انجذب لفكرة نيتس تسنجوت، وبتمويل من المنظمة الدولية لدراسات السلام IPRA، أجرى في صيف 2008 استطلاعا بين عينة ممثلة من 500 متخرجا يهوديا. اتضح في الاستطلاع أن التأييد الواسع للذاكرة الرسمية يشهد على درجة قليلة من التفكير النقدي، والإيمان بالقيم التقليدية، والتماهي الشديد مع الهوية اليهودية، والميل لسلب الإنسانية عن العرب وتأييد الخطوات العدوانية ضد الفلسطينيين.

في حوار بنيويورك يقول نيتس تسنجوت أنه، بشكل بارز، فأصحاب "الذاكرة الصهيونية" يرون إسرائيل واليهود كضحايا للصراع، ولا يميلون لدعم مسيرات السلام أو التسويات. ووفقا له، فالنتائج تؤكد على أهمية تغيير الذاكرة الجمعية، حتى تصبح أقل توجها وأكثر موضوعيا، بشرط، كما هو بديهي، أن يوجد أساس معلوماتي لهذا.

يرفضون النظر في المرآة

بار تال، والذي كان رئيس الرابطة الدولية لعلم النفس السياسي، هاجر إلى إسرائيل من بولندا عندما كان طفلا في الخمسينيات. ومن وجهة نظر رجل سلام، فهو ينظر إلى الشكل الذي خلقت به ذاكرة جمعية للحرب التي انتهت الآن في الجنوب. يقول:

"كبرت في مجتمع لم يتقبل أغلبه الواقع الذي حاولت السلطات رسمه وكافح من أجل مستقبل آخر.. لدى أفكار حزينة عن شعوب لديها هوية شبه مطلقة بين وكلاء الصراع، الذين ينمون من ذهنية الحصار والخوف الوجودي، وبين المجتمع. شعوب تستجيب بسهولة إلى نداءات المعركة وتتردد في أن تخدم من أجل السلام، لا تبقي أي مكان لمحاولات بناء مستقبل جيد آخر.

يشهد بار تال على أن الوعي الإسرائيلي بالواقع تم بناؤه أيضا في سياق من العنف الفلسطيني ضد المدنيين الإسرائيليين، ولكنه قائم بالأساس على توجيه متواصل يستند إلى الجهل ويقوم بتنميته. في رأيه، باستثناء قلة صغيرة تنظر إلى الماضي بشكل يقظ، فإن الجمهور الواسع يرفض النظر في المرآة. هو غير مهتم بمعرفة ما فعلته إسرائيل في غزة على امتداد السنوات. كيف تم تنفيذ الانفصال وما هي النتائج بالنسبة للفلسطينيين، كيف وصلت حماس للسلطة، كم شخصا قتلوا في غزة منذ الانصال بل ومن بادر بانتهاك وقف إطلاق النار في القطاع.

حتى برغم أن هناك مصادر متاحة تجيب على هذه الأسئلة، فالجمهور يقوم بالرقابة الذاتية ويتلقي الصيغة التي تسلمها له المؤسسة، في ظل عدم رغبة في اكتشاف معلومات بديلة –حتى لا يربكوه بالحقائق. نحن شعب نعيش في الماضي، متشرب بالخوف ويعاني من الانغلاق الفكري المزمن"، هكذا يجلدنا بار تال: "بعد التجربة المريرة في حرب لبنان الثانية، والتي صودرت فيها ذاكرة الحرب من أيدينا، قرر رؤساء الدولة ألا يدعوا هذا يتكرر. قرروا كيّ وعي اليهود في إسرائيل، ولذا فلقد مورست رقابة صارمة على المعلومات."

يدعي أن وسائل الإعلام قد ساعدت السياسيين، وقد تم تجنيدها طواعية. فكل قنوات الإعلام تقريبا ركزت على الإحساس بكون سكان الجنوب ضحايا وتجاهلت بشكل تام تقريبا – قبل الحرب وأثنائها – وضع سكان غزة المحاصرة. كل من القصص الإنسانية من مستوطة سديروت وسلب الإنسانية عن حماس والفلسطينيين، قد أوجدا الرغبة في ضرب غزة بكل قوة.

الصراع كأيديولوجيا

"طابع الصراع مزروع عميقا في المجتمع اليهودي بإسرائيل"، كما يقول بار تال: "إنها أيديولوجية متجذرة تبرر أهداف اليهود، تتبنى صيغتهم، وتعرضهم بشكل إيجابي جدا وتسلب الشرعية عن العرب والفلسطينيين بالأخص."

هكذا، ففي رد على سؤال عن سبب فشل المفاوضات مع الفلسطينيين في صيف 2000، أجاب 55.6% من المشاركين في الاستطلاع أن: "باراك عرض على عرفات اتفاقية سلام سخية للغاية، ولكن عرفات رفضها، لأنه لم يرغب في السلام بالأساس". 25.4% اعتقدوا أن كلا الطرفين مسئول عن الفشل و 3% أجابوا بأن ياسر عرفات كان مهتما بالتسوية ولكن عرض باراك لم يكن سخيا بما فيه الكفاية. 16% قالوا أنهم لا يعرفون.

أكثر من 45% من اليهود نقشوا في ذاكرتهم الصيغة القائلة بأن الانتفاضة الثانية اندلعت لأن عرفات خطط للمواجهة مسبقا. فقط 15% منهم يصدقون الموقف الذي عرضه ثلاثة من رؤساء الشاباك، القائل بأن الانتفاضة كانت في أساسها انفجاراً للغضب الشعبي. أكثر من نصف من توجه إليهم السؤال يحمّلون الفلسطينيين مسئولية فشل مسيرة أوسلو. 6% منهم يحمّلونها إسرائيل و 28.4% يحمّلوها الطرفين بنفس الدرجة.

40% ممن توجه إليهم السؤال لا يعرفون أنه في منتصف القرن التاسع عشر كان العرب هم الغالبية الحاسمة من سكان أرض إسرائيل (فلسطين)، وأجاب أكثر من نصفهم بأن خطة التقسيم التي عرضت على العرض كانت ملائمة لنسب السكان – بل وفاقتها في المساحة. 26.6% لم يعرفوا أن الخطة عرضت على 1.3 مليون عربي قطعة أرض أصغر كثيرا (44%) من تلك المعروضة على 600 ألف يهودي (55%). يزعم بارتال أن تشويه الذاكرة هذا هو أمر غير عرضي: "معرفة كيف قسمّت الأرض يمكنها أن تطرح الأسئلة بخصوص الصيغة التبسيطية، والقائلة بأننا قبلنا خطة التقسيم وهم لم يقبلوها."

مع هذا، فالبحث يرينا أن جزءا كبيرا من السكان اليهود (47.2%) يعتقدون أنه في 1948 تم طرد العرب، بينما يفضل 40.8% الصيغة الصهيونية القديمة، والتي غادر وفقها اللاجئون الأرض بمبادرة منهم.

وجد نيتس تسجنوت أن هناك درجة من النقد الذاتي حتى في إجابات السؤال عن المسئولية الشاملة وراء الصراع. 46% ممن توجه إليهم السؤال يعتقدون أن المسئولية موزعة بشكل متساو تمام بين اليهود والعرب، 4.3% يعتقدون أن اليهود بالأساس هم المذنبون. 43% يعتقدون أن العرب والفلسطينيون بالخصوص هم المسئولون.

بار تال يقول أنه لا يجد عزاء في معلومة أنه حتى الذاكرة الجمعية الفلسطينية تعاني من أمراض مشابهة، وأنها تحتاج أيضا إلى تغيير عميق حتى تنظر الأجيال القادمة في الشعبين لبعضها البعض بشكل متوازن وأكثر إنسانية بالأساس. بين الفرنسيين والألمان، بين البروتستانت والكاثوليك في شمال أيرلندا، تأخذ هذه المسيرة عشرات السنوات. متى، أخيرا، سوف تبدأ عندنا أيضا؟

ترجمة: نائل الطوخي


Friday, January 23, 2009

الروائي العالمي محمد أحمد: والله بعودة

الروائي العالمي محمد أحمد لم يمت، وليس لمثله أن يموت.

بعد أن خدعنا جميعا، بعد أن أشرنا إلى موته كثيرا، هنا وهناك وهنالك، يفاجئنا الروائي العالمي بأنه لم يمت. ينشر هنا مقالا ممتازا حول المائدة المستديرة في مطروح، والتي تمحورت حول السرد الجديد.

الآن أتذكر شيئا آخر: قبيل موته بأيام، كان الروائي العالمي قد أرسل نسخة من كتاب له للنشر. الكتاب لم ينشر، بسبب دواعي الرقابة التي لا تتحمل، كما هو معروف، أي تجاوز للخطوط الحمراء في أي إبداع مختلف. لم يحدثني محمد أحمد ولم يحدث ابنته، وهي زوجتي الفاضلة، بأمر الكتاب، الناشر فقط من ظل معه هذا السر. فقط بعد الموت، أو ما ظنناه موتا، بسنوات، حدثني الناشر، وكنا نتناول عشائنا في أحد المطاعم الفاخرة، حدثني عن الكتاب، وأبدى حزنا عميقا للتعنت الذي وصلت إليه الأجهزة الرقابية في بلدنا. قال لي بالحرف وهو يمسك السكينة ويقربها من رقبته: "انظر، إنهم يذبحوننا هكذا"، وظل يمرر السكينة ذهابا ومجيئا على رقبته، ليعلمني طريقة الذبح. أخبرني وقتها باسم الكتاب الساحر: "مطروح: مفتاح الحياة". الآن فقط أنتبه. ظلت مطروح هي ذلك الاسم الفريد الذي يلهم الروائي العالمي، وعندما كانت تستعصي عليه أي حبكة أو مكنونات أية شخصية من شخصيات روايته الشهيرة "فتاة الليل الحزين"، فإنه كان يلجأ لزيارة مرسى مطروح أو يزور قبر السيدة الفاضلة والدته، يقرأ على قبرها الفاتحة ثم يعود وقد امتلأت رأسه بالصور والشخصيات. مطروح ظلت بالنسبة له أيضاً إكسير الحياة. كثيرا ما كان يقول لي بلهجته العفوية والحميمة: "يا أخي (هكذا كان يبدأ كلامه، هو الروائي العالمي وحمايا العزيز وأنا الذي كنت ولا أزال مجرد قطرة في بحر علمه وأفضاله، بكلمة التودد التي لا يعرفها غير المصريين: "يا أخي") أنا مش عارف مطروح دي بتعمل في البني آدم إيه، أكنها بتخلقني من أول وجديد." هو كان يشير إلى نفسه بكلمة "البني آدم"، كأنه مجرد إنسان عادي مثل باقي البشر، وليس الأديب الحاصل على جائزة "الإبداع الهائل"، وصاحب الروايات الممتازة التي أعجبت كل الناس. ليت روائيينا الشباب يتعلمون الآن فضيلة التواضع من حمايا العظيم. الآن كل من نشر له كتاب ظن نفسه محمد أحمد.

مطروح أعادت محمد أحمد إلى الحياة فعلا: هل ظل يعيش هناك طوال هذه الفترة غائبا عن أعيننا، بينما نحن نعتقد أنه قد مات، ثم عاد ليكتب مقالا عن السرد الجديد، السرد الجديد الذي لطالما آمن به وكاد يدفع عمره أكثر من مرة دفاعا عنه، والذي كان يحبه مثل عينيه وأكثر؟ هل أن ما حدث كان معجزة، بمعناها الحرفي، وقام محمد أحمد من بين الأموات ليلحق بميعاد المؤتمر حتى يستطيع الكتابة عنه، ثم يعود ثانية إلى قبره؟ هل فقد محمد أحمد ذاكرته وخلق له مجتمعا آخر في مكان آخر، ولم يستردها إلا مع انعقاد المؤتمر؟ ربما. في جميع الأحوال، يظل لجملته بأن مطروح تعيد الإنسان إلى الحياة، وقعها التنبؤي الرهيب، كأنه كان يعرف الحقيقة، كأنه كان يراها قبل حدوثها بسنوات وسنوات.

أم أن المقصود هو محمد أحمد آخر؟

وهل يمكن لشخصين أن يحملا معا هذا الاسم الفريد، الساحر، وغير القابل للتكرار في بلدنا: محمد أحمد؟

ربما، ولكنني بمنتهى الصراحة.. أشك

Friday, January 16, 2009

زيزي، زيكاس، وأبو عرب: قصة أغنيتين

أقضي ليلتي مع "يا صلاة الزين". أستمع إلى سيد مكاوي يغنيها أولا، ثم أقرر تحميل نسخة "زكريا أحمد". نسخة زكريا هي الأصلية. هذا لا يتصل فقط بتاريخ اللحن وإنما بتاريخ علاقتي أنا به، تعرفت على اللحن منذ عشر سنوات تقريباً بصوت زكريا أحمد، وعندما بحثت عنه منذ أشهر لم أجده إلا بصوت مكاوي. شيء ما جعل نسخة زكريا تقع في يدي اليوم، هنا. هي بصوت زكريا قوية، عكسها بصوت سيد مكاوي، زكريا كان يقنن للحن، كان يضع حدوده الصارمة، بقوة، ومكاوي، الذي جاء بعده بعقود، لم يتورع عن خلخلة الحدود، أو لأنه كان أعمى، فلم يرها أساسا. وهذا محض استظراف من جانبي، كما هو واضح.

يا صلاة الزين: لحن ذو إيقاع سريع وقوي، يعاود الوصول إلى ذروته في كل فقرة من فقراته. أبو عزيزة مثلا، الزناتي خليفة هو: "سلطان زمانه، بساتينه، نخل ورمان، وحصى أرضه، لولي ومرجان، ومطاوعينه، والناس والجان، يقولوله، يا ذا السيفين، يا صلاة الزين." هكذا إذن، يا ذا السيفين (أو يا ذا القرنين، تقال بالشكلين) هي الذروة المطلقة التي يبدأ بعدها الإيقاع في الهبوط، هي القنبلة. والقنبلة لم تنفجر فجأة. اللحن، ومعه صوت زكريا، يتصاعدان، يأخذان في الاشتداد، على طول الجمل القصيرة التي تشكل الكوبليه. كل جملة هي أكثر شدة من سابقتها، حتى يصل العنف إلى قمته الدرامية. التدرج الهرمي هنا هو أمر لا يعرف الهزار. وزكريا صوته كِشِر، يبدأ بتكشيرة محايدة حتى الوصول إلى الزعيق الهادر. وزكريا، مثل المصري، طول عمره معروف بقوته، وبجبروته.

طيب، على الناحية الأخرى، فسيد مكاوي، سليل المشايخ العميان، محبي الطرب والحشيش والقرآن، له طريقة مختلفة للتعامل مع الأغنية، التي وصلت له على ما يبدو وقد أصبحت مادة للتندر والتقليد. يخفف من حدتها قليلا، يميعها، إذا شئتم. الكلام عن عزيزة نموذج جيد هنا. نعرف أن: "عزيزة شابة، شابة وشباب، نواضرها، يسحر الالباب، وضفايرها، عند الاكعاب، ومباسمها، خمرة وشراب، في قمر ليلة، عشرة واتنين، يا صلاة الزين".

هذه هي صيغة زكريا الأصلية، ولكن لمكاوي صيغته أيضا، وهي صيغة أكثر دلعاً، بعد عزيزة شابة ونواضرها عاملة كذا يريح قليلا: "والله شابة، شابة حلوة، والله شابة، شابة حلوة." يعطل مكاوي اللحن كثيرا قبل أن يصل به إلى الذروة. النتيجة الحتمية هي أن اللحن يفقد كثيرا من قوته لدى وصوله إلى الجملة الختامية، يصل فاترا وضعيفا، بما لا يقبل المقارنة مع اندفاعة زكريا الرهيبة. الوصول الآن عِلق، ومرح، ورايق، وغير معنى بالقوة التافهة. الدلع أصدق أنباء من السيف يا دكتور.

الأغنية في أصلها هي أغنية مديح: "يا صلاة الزين، على الأمرا، يا صلاة الزين، ليلتهم حلوة، ومحليها، رب القدرة، ومنورها، باخوان أمرا، قصدناهم، خبرا وشعرا، ووجدناهم، كيف البحرين، يا صلاة الزين." هي أغنية تسول من النوع اللطيف. الأمراء هم مثل البحرين في كرمهم، والمداحون يتم استدعاؤهم على طول الأغنية للحديث عن -1- عزيزة -2- أبوها الزناتي خليفة -3- أخوها أبا سعدة، بالترتيب. سيد مكاوي يعيد الأغنية إلى اتجاهها التعريصي الأساسي، والذي لم يبد بقوة في نسخة زكريا أحمد. تبدأ الأغنية بمكاوي يجرب صوته: "يا صلاة الزين، على الحلوين.. على أمير البلاد يا صلاة الزين.. على الحاضرين يا صلاة الزين"، أو، في تسجيل تم في تونس: "على تونس يا صلاة الزين"، ثم ينتقل للكوبليه المذكور. يحب مكاوي أن يمسي على الحاضرين، الناس الحلوة التي تعبت نفسها وجاءت تسمعه. التواصل معهم، على ما يبدو، هو الأساس في شخلعته للكلام أكثر، بالمقارنة بزكريا أحمد الذي بدا وكأنه يقرأ من ورقته بدون الالتفات إلى العالم الواسع خارجها. يمسي مكاوي على عزيزة أيضا، يضيف وهو يخاطب المداحين: "قولوا على عزيزة، زينة الستات". لم يصفها زكريا بزينة الستات، ولكن مكاوي صاحب واجب، وهو يحب الناس ولا يحب أن يكون أحداً في أغنيته غير مرضي، حتى لو كانت عزيزة التي دارت جميع فقرات الأغنية حولها وحول قرايبها. مثلا، في أغنيته هناك فقرة كاملة مضافة، فقرة مبهرة، يخلق فيها، أو يعيد إلى الوجود، شخصية جديدة ليقوم بالتمسية عليها. بعد مدح المداحين لعزيزة ينتقل للحديث عن امرأة أبيها، أم العلام، وعن عظمة محملها في طريقها للحج: "أم العلام، تبارك الله، هيبة ومقام، يعلوها، عشرة خدام، تحججها، في هادا العام، على محمل، تحته جملين، يا صلاة الزين."

الأغنية تحوي خطئاً على ما يبدو: يقول زكريا أحمد عن أبا سعدة، أخو عزيزة، والذي هو، بنص الأغنية، فارس فارس: "فارس معدود، على صيته، باين محسود، ومن صوته، شاب المولود، على شنابه، يقفوا صقرين، على دراعه، يقفوا سبعين على كتافه، يبنوا قصرين. يا صلاة الزين " انتبه للخطأ، مكان وقوف السبعين غير محدد بدقة، هل هو على دراعه أم على كتافه؟ الاستسلام للبنية الصارمة للكوبليه، يُلزم بأن يكون هناك مكاناً قبل، ومكاناً بعد وقوف السبعين. يصبح المكان قبل هو الدراع، والمكان بعد هو الكتاف، مع التأكيد على أن "يقفوا سبعين على كتافه" منطوقة بحيث تبدو جملة واحدة مكتملة، غنية عما قبلها وعما بعدها. سيد مكاوي من جانبه لم يحل هذه المشكلة، وإنما حركها، حبة بسيطة، ناحية وقوف الصقرين. يقول: "ومن صوته، شاب المولود، على شنابه، يقفوا صقرين، على شنابه، يقفوا سبعين." الصقران يقفان على شنابه مرتين، قبل وبعد. كان هناك فراغ، ولزم أن يتم ملؤه بأي شيء، بينما كل العناصر المنطقية لكلمات الكوبليه قد استنفدت، الصقور والقصور والسباع والأكتاف والشوارب، ولم تتبق غير العناصر غير المنطقية. تم ملء الفراغ إذن بأي شيء. كم كان هذا سيئاً يا إلهي.

Friday, January 09, 2009

ذكورة لا تُرى

الذكورة لا تعبر عن نفسها.. الذكورة خرساء

ليس هناك خطاب منمق يتحدث باسم الذكورة، مثلما أنه لا خطاب منمق، تقريبا، يتحدث باسم الشر، باسم الجريمة.

واحدة من جرائم النسوية هي ربطها الذكورة بالشر. لم يعد من الممكن الحديث عن روح ذكورية، لمسات ذكورية، لغة ذكورية، بدون أن يكون هذا متصلا بالحديث عن الاستبداد، بهذا كسبت النسوية نقطة في الحرب، ولكنها خسرت رؤية مشهد واسع يختفي خلف السطح. خسرت رؤية الرجل معزولاً عن عدته العسكرية. وخسرت رؤية قضيبه معزولا عن عنفه.

في البدء كان العنف، والعنف كان أمراً مجتمعياً، يمتثل له الرجال جميعا، يتلقى الرجال الأحدث أوامر الرجال الأقدم بأن يكونوا أقوياء، يتقبلون حكمهم بأن الرجل المسالم والضعيف هو رجل مخنث، وبأن الذكورة تعني قدرتك على الدفاع عن نفسك وبيتك وقدرتك على الهجوم على الآخرين، وأنها لا تعني قضيبك فحسب، وإنما تعني بالأساس قضيبك الحصري، الوحيد في العالم. هذه الأحكام هي أحكام عنيفة، مفروضة من خارج الرجل (هل يمكننا تصور طفل يثور غاضبا إذا ما داعب طفل آخر قضيبه أمامه؟) مفروض على الرجل طوال أيام حياته آداء دور الغيور، الغضوب، الشرس في مواجهة من يعتدى عليه. ضعف الرجل في مواجهة الأمر القاسي الموجه إليه بأن يكون عنيفا، هو ضعف مركب: ضعف أمام القوة التي يسعى للحصول عليها، وضعف تحت وطأة القوة التي تهدده بإقصائه عن ذكورته.

الرجل، في الفقرة السابقة كلها، هو رجلان، رجل يأمر بالعنف ويهدد بأن يعتبر الآخر مخنثا، وآخر، يمتثل للأمر خوفا من الاتهام. وبينما تم حصر الذكورة كلها في الرجل الأول، فلم ينتبه أحد إلى الثاني، لم ينتبه أحد إلى ضعفه المركب والمحمل بالدلالات، و"الذكوري" تماما، كما ينبغي القول.

***

ديوان "حرير" للشاعر المصري عماد فؤاد، محاط من جانبيه بفقرتين، ينشغل كلاهما بما يريده جنس من الجنس الآخر. الفقرة الأولى: "أعرف رجلا/ يسأل نفسه كل صباح:/ ما الذي يريده رجل من امرأة/ كلما همت بمس حريرها/ أنت في قلبه/ دودة القز"، وثانيتهما: "نعم/ أعرف امرأة/ تسأل نفسها كل صباح:/ ما الذي تريده امرأة من رجل/ لو همت – وحيدة - بمس حريرها/ غير أن تئن في قلبه/ دودة القز!؟" السؤال في المقطع الثاني مفتعل تماما، يكاد يكون معلومة إذا شئتم، بينما المقطع الأول هو سؤال تام، لا ينجرح بمحاولة طرح إجابة. المرأة في السؤال الثاني لا تريد إلا دفع دودةُ القز لأن تئنّ في قلب الرجل، لا تريد إلا أن تحركه، تسيطر عليه عبر مس حريرها. هذا واحدة من تجليات المرأة، المسيطرة برقة، عبر مس الحرير. في منتصف الديوان تظهر صورة أخرى لها: "عاشقان/ يرقبان من شرفتهما/ مشاجرة بين حبيبين مراهقين/ شتمت المراهقة حبيبها/ واتتها الجرأة – حتى – على صفعه/ في اللحظة التي هم المراهق برد صفعتها/ رجتها نظرة العاشقة:/ ابصقي عليه!/ فيما توسلت نظرة العاشق:/ احضنها/ أيها المغفل!"

نظرة العاشق الذكر اختتمت قصيدة فؤاد، لا لتتحدث عن نفسها، ولكن لتتحدث عن الأنثى، عن لغتها السرية: عندما تصفع الرجل فإنها تكون محتاجة لحضنه، والرجل بليد، مغفل بتعبير القصيدة، لأنه لم يفهم هذه اللغة. وهكذا: تجل آخر من تجليات الأنثى، قفزة أخرى جريئة إلى عمق تعقيداتها، بينما ما يريده الرجل من المرأة يظل محاطا بعلامة استفهام، بلا محاولة لتقديم إجابة. والكلمة الأخيرة في الديوان هي لصالح محاولة فهم المرأة ورغباتها وتقديم أوجه جديدة لها. ولكن "ما الذي يريده رجل من امرأة"؟ لا أحد يجيب هناك، ربما لأنه لا أحد يعرف، ولا أحد سعى للمعرفة.

***

العبارة التي بدأنا بها المقال: "الذكورة لا تعبر عن نفسها.. الذكورة خرساء"، هي عبارة درامية قليلا، مبالغ فيها قليلا. هناك مثلا خطاب شائع عن الذكر: الذكر الحامي لأفراد قبيلته، والقاسي عليهم في ذات الوقت، المستبد العادل، الطاغية المحق، عبد الناصر. ولكن هذا الخطاب، وهو الذي ولدت عنه كلمة "ذكوري" بدلالاتها السلبية، ظل بدائيا وسطحيا للغاية، وأقرب إلى تصور الرجل كإله (إله للشر أو للخير، ليس هذا الفارق ذا بال هنا)، على عكس التصورات الأدبية الشائعة عن الأنثى بتعقيداتها (شبقها العارم، انهزامها، مكرها، حاجتها للدفء، نفورها من الرجال الأغبياء، إحساسها بالتفوق، قوتها وضعفها، ولعها بالتفاصيل، حسيتها، أي: ولعها بالألوان والعطور والمذاقات). يحكي مسئول المخابرات السوفيتية، فلاديمير كربتشنكو ، عن لحظة لقاءه بعبد الناصر بعد 67 قائلاً: "كانت أظافره مقروضة حتى اللحم". هزيمة الرجل، ضعفه المبالغ فيه أمام ما يفوقه قوة، هذه الصورة التي تجرح بلا هوادة صورة الإله، تم تجاهلها في الخطاب البدائي المصاغ حول الرجل، برغم تأثيرها في الوجدان العام. على سبيل المثال، فالمظاهرات العارمة التي طالبت ناصرا بعدم التنحي، كانت تالية على الفور لخطاب التنحي الذي ظهر فيه الذكر مهزوما. قيل دوما أن قوة المرأة تكمن في ضعفها، يبدو أن هذا لم يقتصر على المرأة أبدا، وإن لم يتم الاعتراف بهذا. في روايته "باب الشمس" يشير إلياس خوري إلى مثل لبناني: "دمعة الرجال بتهز جبال". يدلنا المثل على القوة السحرية الرهيبة الكامنة في ضعف الرجل.

وبهذه المناسبة الجيدة، فبكاء الرجال لا يشار إليه في الكتابات النسوية، وإنما في حديث وانتقادات نساء أقل تعليما وثقافة، يعتبرنه عيبا خطيرا ومثيرا للسخرية. يقال كثيرا: "أقرف من الرجل الذي يبكي لسبب أو بدون سبب، يذكرني بالنساء". قرف النساء هنا، وهو قرف شعبي وشائع وغير نخبوي، يصب في نفس الفكرة البدائية عن الرجل الإله. الكتابة النسوية من جانبها لم تشر إلى هذا الملمح، لقد تجاهلته تماما، أما الشاعر علاء خالد، فيكتب في ديوانه "كرسيان متقابلان" عبارة تبدو صادمة لنا، عبارة يضع فيها كل شيء مكانه، أو هكذا يبدو. يقول: "الألم/ شارة الأنوثة التي تخيم على النسبة الغالبة من حياتي."

***

القوة هي ملمح ذكوري في الخطاب النسوي، وهي ملمح سلبي بالطبع، لأن القوة هنا تغدو هنا قوة عنيفة، قاسية ومتسلطة، ولكن هناك أمراً لصيقا يمكن أن يشكل تفصيلة في خطاب آخر يصف الذكورة بشكل محايد، وهو "وهم القوة". في مرحلة ما من حياتهما، يدرك الرجل والمرأة أن قوتيهما متكافئان تقريباً، وأن كليهما ضعيف أمام أشياء بعينها، مثل: التهديد بالسلاح، وطأة الظروف الاقتصادية، ظواهر الطبيعة، المرض، الموت، الجن والعفاريت والعالم الآخر. مع هذا، فـ"الرجال لا يكفون عن التبجح بقوتهم"، كما تشكو النساء، مع ابتسامة مشفقة. هذا التوهم الصبياني للقوة هو أمر طريف وأحمق بلا شك، وهو يذكرنا بالأطفال. "الرجال أطفال كبار" هي عبارة أنثوية شائعة عن الرجال، وبرغم هذا، لم يتم تضفيرها في أي خطاب نسوي عن الذكورة. انشغل الخطاب النسوي فقط بتصوير الرجال كآلهة طغاة.

بسبب "وهم القوة" هذا بالتحديد، فإن ضعف الرجل يأخذ ملامح مختلفة عن مثيله لدى المرأة. يصبح الضعف هنا جرحا نرجسيا لصورة الإله التي يتصورها كل من الجنسين عن الرجل. هنا يمكننا فهم المهانة المضاعفة التي شعر بها "السيد أحمد عبد الجواد"، رمز الذكورة الشهير في "بين القصرين" لنجيب محفوظ، عندما أمره الجنود الإنجليز بالحفر في الشارع أمام أولاده. أو يمكننا فهم انتحار الدركي السابق بعدما فشل في إتيان زوجته في رواية علوية صبح "مريم الحكايا". لم تكن العنة هي السبب المباشر في المثال الأخير، وإنما سلسلة من الإهانات قادت إليها العنة. بعدما كانت الزوجة ترفض محاولات زوجها للتقرب منها يشكوها إلي أخيها، أي: يستغل قوته كرجل ويفشي أسرارها الحميمة، تستجيب الزوجة لكلام أخيها الذي ينصحها بتقبل محاولات زوجها. تتهيأ له وتتقبل محاولاته لإغوائها. لكن الزوج الهرم يفشل في إتيانها بقضيبه، وهو ما يضطره لإدخال إصبعه بفرجها في محاولة لإرضائها ولحفظ ماء وجهه. هنا يكون انتقام الزوجة المتجبرة. تضربه بالعصا: ضربة لأنه فضحها لدى أخيها، وضربة لأنه فشل في مضاجعتها، وضربة لأنه حاول إدخال إصبعه. الجريمة الأحدث (جريمة الضعف، العنة) تقود للمحاسبة على الجريمة الأسبق (جريمة القوة، إفشاء أسرارها). بعدها بساعات ينتحر الزوج، الدركي السابق، بإطلاق النار على رأسه.

العنة هي كابوس الرجال. ولكن الرجال ضعفاء أمام أمور أخرى أيضاً، أمام السمنة والصلع (ويكتسب هذان الضعفان أهميتهما على ضوء إشاعة عملاقة وكاذبة تفيد بأن الرجال – على عكس النساء - متصالحون مع أجسادهم). الرجال ضعفاء أمام الاتهام بالخنوثة أو بالمثلية، ضعفاء أمام التقدم في السن، وأمام القوة، كما أسلف القول، ومن الضعف الأخير تنتج الغيرة الذكورية التي تدمر صاحبها. تعبر أغنية كتبها كامل الشناوي وغناها كل من عبد الحليم حافظ ونجاة الصغيرة، عن الشكوك التي تدمر الرجل، يبدأ الشناوي القصيدة بجملة شهيرة: "لا تكذبي/ إني رأيتكما معا"، شكوك الرجل في محبوبته التي رآها وهي تخونه تجعله يصبح طفلا حتى وهو يدعي الألوهة والقوة التامة: "كوني كما تبغين ولكن لن تكوني/ فأنا صنعتك من هوايا ومن جنوني". يلتقط عبد الوهاب محمد طرف الخيط، ويكتب أغنية للمطربة التونسية لطيفة: "بحبك كدا زي ما انت/ بغيرتك عليا/ بقسوة عتابك/ بشكك وظنك/ وثورة شبابك." لم يلتقط عبد الوهاب محمد الخيط كما ينبغي، ظلت الغيرة والشكوك الذكورية مرتبطة بالقوة، بثورة الشباب، وليس بالضعف الطفولي للرجل، ظل تصور الأغنية أقرب إلى التصور البدائي عن الرجل: كلما كان أكثر عنفا، كلما كان أفضل. للشناوي أغنية أخرى تبدأ بالنغمة الحزينة والمترددة: "حبيبها/ لست وحدك حبيبها/ حبيبها أنا/ حبيبها أنا قبلك/ وربما جئت بعدك/ وربما كنت مثلك/ حبيبها"، إلى أن تنتهي بتدمير الذات: "وسرت وحدي شريدا/ محطم الخطوات/ تشُدنى أنفاسي/ تُخِيفُني لفتاتي/ كهارب ليس يدري/ من أين أو أين يمضي/ شك ضباب حطام / بعضي يمزق بعضي". ربما كان كامل الشناوي واحداً من أفضل من صاغ خطابا على لسان الذكورة، خطابا ينزل بجسارة إلى أعماقها وتعقيداتها، إلى سعيها المحموم لتدمير نفسها فور اكتشاف أن قضيبها ليس هو الوحيد في العالم، هذا الظن الذي يثير سخرية النساء، ويمكن استخدامه بسهولة كدليل على الحماقة الطفولية، وهي وجه آخر للرجل. تكتب عناية جابر ساخرة في ديوانها "كل أسبابنا": "بجسد فاحش/ أتخلع أمام الرجال الوحيدين/ والفاتنين/ وأنت/ في كل مرة ترتجف/ كما لو أفعل ذلك/ لأجلك". كل هذا بدا أنه تبدد في الفراغ، ظلت شذرات بسيطة فقط منه تظهر وتختفي، ولم تشكل صرحا منطقيا ومتماسكا، مثل الصرح الذي أصبح عليه خطاب النسوية.

***

في يومياته، يكتب الكاتب المصري وجيه غالي عن علاقته بناشرته البريطانية، يكتب كيف كانت تحاول إغواءه وهو لا يستجيب لها، يقول: "لا جدوى من الكذب أو النفاق. لقد بت أمقتها. أجدها لا تحتمل. صحيح أنني مريض. وجزء من هذا المرض، أو واحد من أمراضي.. أن ردود أفعالي العقلية تتوقف على استجابتي الجسمية للأشياء. ومثال ذلك أنني أتحدث عن الحب، ولكن الحب بالنسبة لي هو الرغبة الجسمية لا أكثر ولا أقل. وهو ما يفضي بي إلى أن تكون ردود أفعالي ناجمة عن نفوري الجسمي من ديانا. أنا أجد من المستحيل أن أكون في نفس الشقة مع شخص يجعل جسمي ينكمش. وقد أدى ذلك بي إلى مقتي لكل ما تفعله أو تقوله أو تكتبه."

النفور الشديد من جسد المرأة التي لا تثير الرجل – بلا تعميمات بالطبع، التعفف عن المرأة المتاحة، وعن المرأة اللحوح، القرف من اللحم الأنثوي عموما بعد القذف، كل هذه تفاصيل لم تظهر كما ينبغي في خطاب صوّر الرجال دائما بأنهم "لا يرون أبعد من قضيبهم". انزعاج الكتابات النسوية من شبق الرجال، وتصويره كتفصيلة واحدة من تفاصيل البلادة الذكورية، كان دائماً نفوراً مبالغاً فيه، ولم يعمل إلا بوصفه سلاحا عسكريا في المعركة ضد الرجل. لم يتم الاكتفاء بوصف الرغبة الجنسية المتأججة للرجال و"هياجهم الدائم"، وإنما كان هذا مدخلا لاتهام الرجال بالغباء، بعدم قدرتهم على منح الحب "الرومانتيكي"، وأمر آخر يتسم بالطرافة: فالهياج الجنسي للرجال، في الخطاب النسوي، كان مثله بالضبط مثل العنة، التي كانت دليلا على عدم قدرة الرجال على منح الحب "الجسدي"، وعلى تركهم اللحم الأنثوي ظمآنا بدون تفهم احتياجاته. استخدمت الصفتان المتناقضتان: "العنة والرغبة الجنسية المشتعلة"، كتشنيع ضد الرجل ودليلا على "جدبه". كان الخطاب النسوي غير عادل في هذه النقطة، لم يكن أعمى فحسب.

أوشك الشاعر صلاح جاهين ذات يوم على اكتشاف أن للذكورة سرا وأعماقاً وأوجه تختبئ خلف السطح. كتب على لسان أنثى خانها رجلها: "ولا غنى ولا صيت/ دولا جنس غويط/ وكتاب ما يبان من عنوانه". أقول أوشك، لأنه لم يحدد من هم المقصودين بـ"الجنس الغويط"، هل هم الرجال في المطلق، أم صنف بعينه منهم. جاهين كتب الكثير عن الأنوثة. في أغنيتين "متناقضتين" كتبهما لمسلسل "هو وهي" - واحدة على لسان الأنثى بعنوان "البنات البنات" وعُدّت دفاعا عن المرأة، والأخرى على لسان الذكر بعنوان "إثبت" عُدّت هجوما عليها - لم تلفت نظره إطلاقا صورة الذكر. تراوح المدح والقدح بين: "البنات حُنينين/ كلهن طيبين"، أو: "إوعى تصدق أنثى/ المرأة خلاص/ إلغاء/ إعدام/ غشاشة من ضلعٍ أعوج/ وزي البحر/ في قلبه ضلام". أما الرجل فظل ممسوح الملامح، حتى وهو يتكلم. وظل جاهين هنا يتحرك بين الإعجاب بالأنثى والتوجس منها، ولم يشعر في نفس الوقت أنه مضطر لقول أي شيء عن الرجل، عن نفسه، كأنه غير موجود، أو كأنه بديهي إلى حد لا يستدعي أي محاولة لشرحه.

وبالفعل، فالجريمة مشتركة: كما يدعي النسويون، وبحق، فإن صائغي الجزء الأكبر من الخطابات في العالم هم رجال، وهذا يحدث على الأقل في الحيز العام والمباشر والسريع. ربما لهذا السبب، وبسبب السيطرة الذكورية التي لا جدال بشأنها، فقد استبعد الرجل ذاته من دائرة الاهتمام، رأى في كونه موضوعا للتأمل والاهتمام انتقاصا من شأنه. تحويل الرجل إلى ذات تسأل والمرأة إلى موضوع يجب السؤال عنه، جعل من الذكورة بداهة غير محاطة بالأسئلة، حتى أصبح الرجل هو الإنسان (وبعض اللغات تجعل المعنيين مترادفين)، والمرأة هي الاستثناء عن الإنسان، هي الخروج من ضلعه الأصلي، كما تعلمنا القصص القديمة. والنتيجة النهائية: نحن لا نعرف اليوم أي شيء عن الرجل، مثلما لا نعرف شيئا عن كل ما هو بديهي.

***

هذه ملامح لخطاب مقترح حول الذكورة. ليس خطابا بديلا، وإنما خطاب مجاور، يفحص نفسية "الجلاد"، ويكشف عن تعقيداتها البالغة، ويبين كيف أنه لا يعمل جلادا طوال اليوم، وأن هناك أمورا أخرى تشغله، يمارسها بعد انتهاء وقت دوامه الرسمي في غرفة التعذيب.

___________________________________

نشر المقال بنفس العنوان في العدد الحادي عشر من "الغاوون اللبنانية"، وأعيد نشره في موقع جهة الشعر

Friday, January 02, 2009

تعليقا على ما يحدث: لا أحد غيرك يحمينا

عزيزي الفنان محمد ثروت:

هذه هي الرسالة رقم 261220 التي أكتبها لك. تعبت من كتابة الرسائل. وتعبت من التجاهل المتعمد لها، تعبت من عدم الرد. ولكنني أواصل، هل تعلم لماذا أواصل برغم تجاهلك الدائم لي؟ لأنني أحبك.

واقعيا، بدأت كتابة الرسائل منذ حوالي ست سنوات. أول رسالة أرسلتها لك قلت لك فيها أنني أحب مصر، وأنني عندما استبد بي هذا الحب لم أجد غيرك لأخبرك به، أنت رمز من رموز هويتنا الوطنية، بجانب هاني شاكر ورأفت الهجان واللمبي. أحبكم جميعا، ولكني أحبك أكثر، تكبر تكبر فمهما يكن من جفاك، سأظل أحبك اكثر، يا أخي وصديقي. يالغالي.

أخويا وصاحبي:

منذ أن غبت عن الساحة قطعت بنا جميعا. صرنا نهبا لكل من هب ودب. إنهم يشتموننا يا ريس. إحنا بنتهزأ بعدك يا ريس. إننا نستغيث بك من قلب الهوان والظلام فلا تصلنا إغاثتك. يا صاحب مصريتنا وطنيتنا حماها الله. يا صاحب الدور الريادي لمصر. يا صاحب نظرية مصر أذكى إخواتها، يا صاحب صاحبك أين أنت؟ أناديلك يا عم فما بتسمعلي ندا.

ترى معي الآن الحاقدين في كل مكان. ومن؟ الذين علمناهم. رعاة الغنم، الكلاب، أولاد دين الكلب. ماذا نفعل غير أن ننجرح، وننجرح كثيرا، وأن نظل منكفئين على جراحنا نلعقها. لا أحد غيرنا سيفهمنا. لا أحد غيرنا سيقدر حروبنا التي خضناها لأجلهم. لا أحد غيرنا سيطبطب عليى كتفنا ويمص بتاعنا. لا أحد غيرنا سنحس معه بالأمان. العالم صار قاسيا لا يرحم. كل هذا يحزنني حتى النخاع، كل هذا يجرحني، وأصرخ بها بكل لغات العالم: It hurts me ya prof.

سيدي ومولاي:

بالأمس القريب كنت أكره حسني مبارك. على يدك، خرجت في مظاهرات ضده، نصحتني وقتها. أفهمتني الفولة. ولكنني لم أفهم. كنت مراهقا عنيدا أرعن. الآن فهمت. الآن نضجت خطوة. الآن كبرت حبة. الآن عرفت توتّا. عندما رأيت بحار الحقد تنفتح علينا من كل جانب. عندما شاهدت الأفاعي والسحالي والأبراص تنطلق من أفواه العاهرين الداعرين الموالسين الخائنين عرة الرجالة والنسوان والدنيا والدين، عندها عرفت قيمة الرجل الذي يرعانا والذي لحم كتافنا من خيره. الآن غيرت هويتي السياسية. إن الأب اتشتم يا عزيزي، ومن كلاب السكك. أي قول يقال بعد كل ما قيل إذن؟

بدأت كتابة الرسائل بشكل فعلي منذ سنتين، كنت قد تمرنت كثيرا على هذا النوع الأدبي. أربع سنوات أكتب ولا أرسل. كنت أشكو بثي وحزني، لا إلى الله ولكن إلى نفسي. واضيعتاه يا نفسي. الآن تمرنت جيدا جدا على كتابة الرسائل. في نفس وقت تمرني على كتابة الرسائل لك، كنت أرسل رسائل إلى رموز مصرية أخرى ومتنوعة، محمد علي باشا، أبو تريكة، عفاف راضي، اللمبي، عبد الناصر، أدهم صبري وزكية زكريا. ولكن لا أحد كان يستجيب لي، لا أحد كان يعبرني ولو بشق تمرة. وفوق ذلك اكتشفت، كما قلت لك سابقا، أنني أحبك الآن أكثر.

قلت لك في بداية مراسلتي لك أنني حزين، حزين لأن هناك آخرين صاروا يقتسمون الوطن معنا، نوبيين وسودانيين ويهود وأقباط ونسوان وسيناوية. كل هذا كان مرعبا. الوطن لم يعد ملكنا يا برنس. نحن الذين أسسناه صار ينسحب منا حبة حبة. آه يا أورشليم يا قاتلة الأنبياء، آه أيتها الأوطان التي تأكل ناسها. الآن ظهر فلسطينيون. لماذا ظهروا؟ شقت صرختي السماوات وأنا أهتف لماذا؟ هل استكثروا علينا أمتاراً من الأرض؟ لماذا لم يتركونا مع نفسنا ننعم بهدوءنا الجميل، بصمتنا البليغ الراقي والمعبر. الشعوب المبدعة الفنانة مثلنا تحتاج الهدوء للتأمل في أحوال الوجود والخير والشر والجمال. سلبت منا وحدتنا التي نحب. سلب منا صفاءنا ونقاءنا. وراح الزمن الذي غنيت له يا سيد الناس.

عزيزي الفنان المصري محمد ثروت:

لا أجد ما أختم به رسالتي إليك إلا كلماتك التي تربينا عليها صغارا وأسست وعينا في سنوات الضياع:

"النور من هنا، والخير من هنا، ليه اسكت أنا ولا اقولش وأعيد"



المخلص دائما: أحمد حلمي